banarlogo

وصايا الضحايا: نمط من انتهاكات حقوق الإنسان في السجون الصدامية

د. رائد عبيس

 

 

يعد موضوع الوصية من الموضوعات الحساسة التي شغلت بال كثير من المعتقلين والسجناء في سجون البعث الصدامي؛ وذلك لما لها من أثر معنوي واعتباري عندهم، ولا سيما عند من يجد في الوصية آخر ما تبقى له من صلة بينه وبين أرحامه. فضلا عن أهميتها الشرعية والاجتماعية والقانونية عند من يشعرون بتكليفهم الديني والاجتماعي والقانوني. وبما أن الظروف داخل المعتقلات والسجون لا تسمح بأن تجري الأمور على وفق أصولها الشرعية والقانونية والاجتماعية، فقد بقي كثير من هؤلاء المعتقلين والسجناء من يعاني اضطراباً وقلقاً نفسياً كبيراً لعدم إمكانية تسجيل وصيته يضمن حفظها ، أو ضمان وصولها، أو تحقيق شروطها الشرعية، فيما يحفظ لولده وزوجته وعائلته حقوقهم فيها, سواء كانت وصية ذات مضمون أخلاقي، أو وصية بتركة، أو أموال، أو تكليف أو تصرف أو ما شابه ذلك.

فالوصية التي تكسب شرعيتها بالأصل الكتابي أو القضائي أو الشفوي، لا تتوفر كما يجب أن تتوفر فيها هذه الأصول؛ لعدم ملائمة البيئة السجنية؛ أو معسكرات الاعتقال لذلك؛ فلذا عند مطالعة مذكرات السجناء أو المعتقلين نجدهم كانوا قد لجأوا إلى سجّانيهم ومعذبيهم ومراقبي السجون إلى أن يحفظوا عليهم وصاياهم ويبلغوا بها أهليهم! حدث ذلك في كثير من حالات الضحايا في وصاياهم؛ لتعذر الحصول على ورقة للكتابة عليها، أو قلم أو تعذر المشافهة بها مع من يعاني من المصير نفسه في المعتقل من قتل وتعذيب وسجن وأحكام مؤبدة وتغييب وغيرها من الظروف التي تلم بهم. أما الأصل القضائي في تسجيل الوثيقة فهو متعذر تماما بوسط الإجراءات المشددة والتنكيلية التي يتعرض لها السجناء، مما تمنعهم حتى من التفكير في الأمر، لتعذر ـ مثلا ـ توكيل محامٍ، أو الاتصال بالأهل، أو التوصل مع من يأتمنونهم على تركاتهم والتصرف في شؤونهم بعد وفاتهم.

فمن يستشعر خطراً جسيماً يداهم حياته جراء التعذيب أو أحكام الموت السريعة، فلا يجد سبيلاً إلى تسجيل وصيته سوى قصاصات ورقية بالية أن توفرت صدفة أو الكتابة على الجدران أو التلفظ بالوصية في النزع الأخير لم يرجوا منه الخير أو لا يُرتجى منه الخير في إيصال الوصية لذويه، ولهذا السبب وغيره كثير منهم من يختصر وصيته على قضايا رئيسة من دون الخوض في التفاصيل؛ لأنه يدلوا بها على عجلة من أمره.

من أمثلة وصايا الضحايا التي كتبت على الجدران، هي وصية الضحية أحلام كتبتها بالنص: (أوصيكم بطفلتي آلاء فهي وديعتي فيكم)، علما أن طفلتها آلاء كانت معها في الزنزانة قبل تنفيذ الحكم فيها بالإعدام. ووصية أخرى لجنان الساعدي: ذكرت فيها (أنا جنان الساعدي من البصرة – الزبير سيعدمونني غدا أنا وطفلتي أرجو ابلاغ أهلي).

فحين يبلغ التعذيب أشده على الضحايا، وينتابهم اليأس من النجاة مع كثرة التعذيب وقوته ويستشعرون معه بالموت في كل عملية تعذيب بدني يتعرضون لها، مما يستدعي أن يخبروا الجلادين بضرورة كتابة وصيتهم فيطلبوا لها ورقة وقلم لكتابة الوصية، فيكون جواب هؤلاء الجلادين أخبرونا بها ونحن نوصلها إلى أهليكم أو نبلغهم بها !! فيضطرون هنا إلى الوصايا الشفوية التي يوصون بها جلاديهم! على أمل أن يوصلوها فعلاً. ويذكر السيد حسن شبر :”كثيراً منا كان يُريد أن يكتب وصيته، ولكنه لا يجد إلى ذلك سبيلاً”. (أنظر: شبر، حسن، صفحات سوداء من بعث العراق، ص 111).

أما من تتوفر له وسيلة للكتابة أو طريقة مبتكرة ما، فيكتب على ورق علب أعقاب السجائر أو كارتون الطعام الذي يجلب، أو الذي يُشترى من الحانوت. فيكتبها ويتركها عند أخفهم حكما، أو أبسطهم قضية، وعند من يُؤمل الإفراج عنه مبكرا، كما حدث هذا الأمر مع السيد حسن شبر (المصدر السابق أعلاه). إلا أن كثيراً منهم كانت قد مزقت وصاياهم بعد أن يعثر عليها السجانون. فهم يعمدون إلى ذلك لإلحاق الأذى النفسي بالضحايا من المعتقلين والمسجونين، ولقطع أواصر الصلة بالأهل، وزعزعة الأمل بالنجاة والإفراج.

فهذا نموذج من استخفاف سلطة البعث بكل الحقوق المضمونة دستورياً وقانونياً في إدارات السجون والمعتقلات، وما ضمنته القوانين المحلية مثل قانون الأحوال الشخصية العراقية المرقم 188 لسنة 1959 الذي نظم في بعض مواده القانونية الوصية، وما يتعلق بها بشكل قانوني لأهميتها التي أغلفها حزب البعث في حق معتقليه وضحاياه من حفظ وصاياهم وتبليغها أهاليهم أو السماح لهم بتنظيمها سواء كان داخل السجون أو خارجها، فضلاً عن ما جاءت به اللوائح الإنسانية الدولية في حق التوكيل، كما جاء في المادة 14 في كل فقراتها من العهدين الدوليين لحقوق الإنسان، والدفاع، أو كما جاء في دستور 1970 المادة 20 / ب أو مادة  22 منه، وحق الاتصال بالأهل، وحق المراسلة وغيرها التي كانت قد انتهكت بشكل صارخ طيلة حكم البعث للعراق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

#حزب البعث #سجون #وصية #وصايا #شهداء #رائد عبيس