banarlogo

حين يصبح الصيام جريمة: انتهاكات البعث لحرية العبادة في شهر رمضان

بقلم: د. عباس القريشي

 

 

لم يكن شهر رمضان في ظل نظام البعث مناسبةً روحيةً تتجلى فيها معاني الإيمان فحسب، بل تحول إلى زمن تتصاعد فيه حملات القمع والتضييق على الحريات الدينية، بدءاً من وضع الصائم في دائرة الاتهام، ووصولًا إلى استهداف المساجد والمجالس الدينية؛ إذ شكَّل هذا الشهر الفضيل تحديًا كبيرًا لنظامٍ رأى في التدين خطرًا على سلطته، فتحوَّل شهر رمضان لدى البعثيين إلى مراقبٍ صارم لكل مظاهر العبادة، مستخدمين شتى الأساليب وأدوات القمع والترهيب؛ لكسر روح التدين لدى العراقيين.

 وهذا المقال يوضح ذلك من خلال ما يأتي:

 

 – الصائمون تحت المراقبة:

كان الصيام في مؤسسات الدولة، وخاصة في الجيش والأجهزة القمعية الأمنية، تهمة يتّهم فاعلها. وقد مارس عدد من البعثيين سياسته التعسفية على الموظفين والعسكريين، ويجبرهم على الإفطار العلني، ومن يرفض كان يُتّهم بالتمرد أو بالانتماء إلى “جهات رجعية”، كما كان يُوصف من قبل النظام، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى اتهام الصائمين بالتحريض على الطائفية؛ مما جعل ممارسة الشعائر الدينية عملاً محفوفًا بالمخاطر.

 

– استهداف الزائرين والمراقد المقدسة:

كان التوجه إلى المراقد المقدسة خلال شهر رمضان، وخاصةً في ليالي القدر، محفوفًا بالمخاطر؛ فقد كثَّف النظام من وجوده الأمني حول العتبات المقدسة في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وفرض قيودًا على حركة الزائرين، خشية أن تتحول هذه التجمعات الدينية إلى ساحات احتجاجٍ، أو يعبر فيها العراقيون عن رفضهم لممارسات السلطة القمعية، وكثيرًا ما تعرَّض الزوار للاستجواب أو الاعتقال، خصوصًا أولئك الذين يُشتبه في انتمائهم لحركات سياسية معارضة.

 

– التضييق على المجالس الحسينية والمحاضرات الدينية:

عدَّ النظام البعثي المجالس الحسينية والمحافل الثقافية، التي تُعقد في شهر رمضان بشكلٍ مكثف، أماكن خطرة قد تحرض على مقاومة الظلم والاستبداد، فعمد إلى التضييق على إقامتها، وفرض رقابة مشددة على مضامينها عبر دس وكلائه وجلاوزته بين المجتمعين؛ فكان أي خطابٍ دينيٍ يتناول قضايا العدالة أو مقاومة الظلم يُعد تحريضًا ضد النظام البعثي، ما جعل كثيراً من أصحاب المجالس ومرتاديها في دائرة الاستهداف؛ إذ تعرض كثير منهم إلى الاغتيال، أو الاعتقال، أو التضييق المستمر.

 

 – التضييق على الخطباء والمبلغين:

لم يقتصر الأمر على المجالس الدينية، بل امتد ليشمل الخطباء أنفسهم؛ إذ فُرضت عليهم رقابة صارمة، وكان أي خطيبٍ يُعرف بتأثيره الواسع بين الناس عرضةً للتصفية، ولم يكن مطلوبًا من الخطباء والمحاضرين تجنب الحديث عن السياسة فحسب، بل حتى المواضيع الدينية التي قد تُفسَّر على أنها دعوةٌ غير مباشرة لمقاومة الظلم، مثل قصص الأنبياء، وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) والأحرار؛ ولهذا قاموا باغتيال مئات الخطباء وآلاف المبلغين من طلبة الحوزة العلمية، أو اختفى العديد منهم، واضطر كثير منهم إلى الهجرة خارج العراق، في حين أجبر آخرون على الالتزام بخطابٍ يقتصر على الرثاء فقط.

 

– كتابة التقارير ضد أئمة المساجد ومرتاديها:

كان أحد أكثر أساليب القمع خطورةً هو تجنيد الوكلاء، وتعيين المخبرين داخل المساجد وبين المصلين، فشجّع النظام البعثي عناصره الأمنية والمتعاونين معه على كتابة التقارير ضد أئمة المساجد ومرتاديها. وكان من السهل أن يُتّهم أي شخصٍ بأنه “مشتبهٌ به”، فقط لأنه اعتاد على حضور الصلوات في شهر رمضان، أو المحاضرات الدينية بانتظام، وتحولت المساجد إلى أماكن مراقبةٍ دائمة، يُخشى فيها الحديث بصوتٍ مرتفعٍ، أو إظهار أي موقفٍ قد يُفسر على أنه امتعاض من السلطة.

 – تغيير السياسة بعد الانتفاضة الشعبانية:

بعد أن أدرك نظام البعث عدم جدوى أفعاله القمعية ومحاربته للدين والمتدينين خلال الانتفاضة الشعبانية، قرر تغيير سياسته. ففي محاولة لاستعادة السيطرة على الشارع العراقي، أطلق النظام ما سمَّى بـ “الحملة الإيمانية”، التي سمح من خلالها بشكلٍ واضح بأداء عبادات شهر رمضان، لكن مع الحفاظ على درجة عالية من الحذر والرقابة. ومع ذلك، استمر النظام في التضييق على الصائمين؛ إذ منع أكثر الصائمين من انتظار وقت أذان المغرب على وفق المذهب الجعفري، وهو المذهب الذي يتبعه أغلبية العراقيين، في حين سمح بممارسة الشعائر، وظل يفرض قيودًا على الإعلان عن موعد الصيام على وفق المذهب الشيعي، مما يظهر استمرار سياسة التمييز الديني.

– انتهاكات النظام في السجون:

لم تقتصر انتهاكات النظام البعثي على الفضاء العام، بل امتدت إلى داخل السجون؛ إذ حُرِمَ السجناء من ممارسة شعائرهم الدينية بشكلٍ كامل. فقانون المؤسسة العامة للإصلاح الاجتماعي رقم (104) لسنة 1981، الذي نظم إدارة السجون، خلا تمامًا من أي نصٍ يضمن حقوق السجناء في ممارسة العبادات، وهذا يتعارض بشكلٍ صارخ مع المعايير الدولية التي تضمن حقوق السجناء في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنها:

  1. القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا): تنص المادة 66(1) على أنه يجب احترام المعتقدات الدينية للسجناء، وتسهيل ممارستهم لشعائرهم الدينية، بما في ذلك توفير أماكن مناسبة للعبادة.
  1. العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: العراق؛ لكونه من الدول المصادقة على هذا العهد، ملزماً بموجب المادة 18(1) التي تؤكد حق كل فرد، بما في ذلك السجناء، في حرية الفكر والوجدان والدين، بما يشمل حرية إظهار الدين، أو المعتقد بالتعبد، وإقامة الشعائر.
  1. مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن: يؤكد المبدأ (6) على حق المحتجزين في احترام معتقداتهم الدينية، وتسهيل ممارستهم لشعائرهم.

فهذه المعايير الدولية تُلزم الدول الأعضاء بضمان حقوق السجناء في ممارسة شعائرهم الدينية من دون تمييز أو قيود غير مسوغة، ومع ذلك، تجاهل النظام البعثي هذه الالتزامات تمامًا؛ مما يجعل انتهاكاته جزءاً من انتهاكات أوسع لحقوق الإنسان.

وفي الختام يمكننا القول إن انتهاكات نظام البعث خلال شهر رمضان لم تكن مجرد أحداثٍ عابرة، بل كانت جزءاً من استراتيجيةٍ شاملةٍ هدفت إلى محو الهوية الدينية للأفراد، وإخضاع العقيدة لسلطة الحزب، لكن على الرغم من كل ذلك، بقي رمضان شهرًا للمقاومة الصامتة؛ إذ تحدى العراقيون القمع بالصيام، وبإحياء الشعائر في العلن والخفاء، في تأكيدٍ على أن الطغاة لا يمكنهم إطفاء جذوة الإيمان مهما بلغت قبضتهم الحديدية.