banarlogo

انتهاكات نظام البعث لنصوص الدستور العراقي المؤقت 1970 – حق السفر أنموذجا – الجزء الثالث

أ.د. حسين الزيادي

 

 

  هذه المقالة ضمن سلسلة من مقالات تأتي تباعاً، تتناول انتهاكات نظام البعث لنصوص الدستور العراقي المؤقت 1970، وسيتم تناول فقرة معينة من الدستور في كل مقال للوقوف على طبيعة الخرق، ومقارنته بالمواثيق والعهود الدولية، وفي هذا الجزء سوف يتم دراسة وتحليل المادة الرابعة والعشرين من الباب الثالث الدستور الموقت لعام 1970 المتعلقة بالحقوق والواجبات الأساسية التي نصت على أنه (لا يجوز منع المواطن من السفر خارج البلاد، أو من العودة إليها، ولا تقييد تنقله وإقامته داخل البلاد، إلا في الحالات التي يحددها القانون).

  وتحتل حرية السفر أهمية خاصة؛ لكونها حق لصيق بشخصية الإنسان، فلا قيمة للحريات إذا لم يكفل للفرد حريته في السفر والتنقل داخل الدولة وخارجها، ولهذا الحق ضمانات دستورية، وضمانات قانونية، فضلاً عن الضمانات الدولية على الصعيدين العالمي والإقليمي، والحقيقة أن هذا الحق من الحقوق الأساسية، وليس امتياز تمنحه الدولة، ويفترض أن يحمي القانون هذا الحق، ويمنع التضييق عليه بأي شكل من الأشكال.

 

العراقيل التي وضعها نظام البعث لمنع السفر

 ضمن الدستور العراقي المؤقت لعام 1970 حرية التنقل والسفر للعراقي سواء كان ذلك داخل العراق، أو خارجه، وعدّ ذلك من الحقوق الأساسية الواجب ضمانها للمواطن العراقي؛ استناداً لأحكام المادة (24) من الباب الثالث من الدستور، ومن ثم فإن الحرمان من السفر يعد حرماناً للمواطن العراقي من ممارسة حقه الدستوري المذكور، وإن النص على ذلك في أي تشريع يعدُّ مخالفاً لأحكام الدستور، ويحكم بعدم دستوريته.

لقد وضع نظام البعث العراقيل والحواجز أمام تنقل الأشخاص وسفرهم، وهذا يعدُّ التفافاً على  المادة (الرابعة والعشرين) من دستور 1970 المؤقت، ومن تلك العراقيل على سبيل المثال لا الحصر: قرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم (375) في الرابع من حزيران 1972م، في جلسته المنعقدة في اليوم نفسه، الذي خول بموجبه وزير الداخلية اتخاذ ما يلزم لمنع السفر السياحي، وتقليص السفر العلاجي، ويَلحظ أن القرارات التي تضع العراقيل أمام حق السفر إبان حكم نظام البعث أخذت بالتصاعد بحسب المراحل الزمنية، ففي 21 تشرين الثاني 1976، صدر قرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم (1281) الذي ينص على أن كل عراقي أو عربي، أو أجنبي يعمل في دوائر الدولة، أو مؤسساتها، أو لدى القطاع الخاص، ويتلقى دعوة من جهة أجنبية  – رسمية، أو غير رسمية – لزيارة بلد خارج العراق أن يحصل على موافقة مرجعه الرسمي أولاً، وعلى موافقة مديرية المخابرات العامة ثانياً، وذلك قبل شهر واحد على الأقل من بدء الزيارة، وتوعّد القرار المخالفين بالفصل والحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات.

    وفي الوقت نفسه فقد وضعت رسوم مالية على المسافرين تبلغ (15) ألف دينار بحسب قرار مجلس قيادة الثورة المنحل ذي الرقم (86) لسنة 1993، ثم رفع المبلغ إلى (40) ألف دينار لكل سفرة بموجب قرار مجلس قيادة الثورة ذي الرقم (55) في الأول من حزيران 1994، وفي عام 1995 ارتفع المبلغ إلى (100) ألف دينار لكل مسافر يبلغ عمره (18) عام فما فوق، واستمر منحى الصعود التدريجي؛ ليبلغ (400) ألف دينار عام 1996، وهذه الرسوم أشبه بالتعجيزية قياساً بالوضع الاقتصادي المتردي في تسعينيات القرن الماضي، إذا علمنا أن معدل مرتب الموظف لا يتجاوز (5000) دينار.

ولم تقتصر العقبات التي وضعها النظام على الرسوم التعجيزية المفروضة، بل شملت عملية استحصال جواز السفر، وتأشيرة المغادرة التي ربطها النظام بموافقة مديرية الأمن، فضلاً عن إلزام من يريد السفر بالذهاب إلى المخابرات العامة؛ ليحصل على التوجيهات، وإعطاء التعهدات اللازمة، علماً أن مديرية الجوازات هي إحدى مديريات الأمن العامة، الأمر الذي أضفى عليها صبغة تنفيذية رقابية، وليس خدمية.

 

الإجراءات القانونية التي نظمها نظام البعث

نظم قانون الجوازات رقم ٣٢ لسنة ١٩٩٩ أحكام السفر بشكل نصوص قانونية واجبة التطبيق، وهي نصوص بالغت في عقوبة من يخالفها، وهذا ما نظمته المادة العاشرة من القانون المذكور، إذ جاءت بالنص على ما يأتي:

أولا – يعاقب بالسجن، وبمصادرة الأموال المنقولة؛ وغير المنقولة كل من:

1- غادر أو حاول أن يغادر العراق، ومن دخله أو حاول أن يدخله؛ خلافا لأحكام الفقرة (أ) من البند أولاً من المادة (٢) من هذا القانون.

2- غادر أو حاول أن يغادر العراق بعد أن تبلَّغ بمنعه من مغادرته، وفق البند أولاً من المادة (٥) من هذا القانون.

 3- غادر أو حاول أن يغادر العراق، ومن دخله أو حاول أن يدخله من غير الطرق أو الأماكن المخصصة لفحص المستندات، التي يتم تحديدها بنظام؛ استناداً للبند خامساً من المادة (٦) من هذا القانون.

4- حرّض أو ساعد أي شخص على ارتكاب أية جريمة من الجرائم المنصوص عليها.

ومن خلال نص المادة العاشرة أعلاه ببنودها يلحظ عدم التناسب بين جسامة الفعل والعقوبة المخصصة له، ويعدُّ هذا المبدأ من الضمانات المهمة التي أكدتها القوانين؛ إذ إن هذه العقوبات مبالغ فيها، فمثلاً عقوبة مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة تعدُّ عقوبة قاسية وشديدة؛ قياساً بالفعل المنصوص عليه، وبهذا فلا يوجد تناسب بين الفعل الجرمي – بحسب تكييف نظام البعث – والجزاء المقرر له.

الضمانات الدولية لحق السفر: إن انتهاكات نظام البعث لدستور 1970 في المادة المتعلقة بحرية السفر تتعارض مع المواثيق والمبادئ الدولية، فضلا عن الاتفاقيات الإقليمية وبما يأتي:

 

أولاً -الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

يعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أول وثيقة دولية تنادي بحريات الأفراد والجماعات، إذ نص الإعلان على حرية السفر بإشارة ضمنية وصريحة، فقد جاءت المادة الثالثة بنص عام مفاده لكل فرد الحق في الحياة، والحرية، وسلامة شخصيته، فالحرية هنا تشمل حرية السفر والانتقال من مكان إلى آخر، في حين نلحظ المادة (13) قد أقرت صراحةً على وجود هذه الحرية، إذ نصت المادة على أن: لكل شخص الحق في حرية التنقل، وفي اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة، وله الحق في مُغادرة أي بلد، بما في ذلك بلاده، وحقه في العودة إليه.

 

العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية

  أكد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية حرية السفر، ولكن ليس بشكل مطلق، كما جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفصّل ذلك في المادة (١٢) من العهد الدولي، لكل فرد يوجد على نحو قانوني داخل إقليم دولة ما حق حرية التنقل فيه، وحرية اختيار مكان إقامته، ولا يجوز حرمان أحد  تعسفاً من حق الدخول إلى بلده، ونصت المادة (13) من العهد الدولي بأن: لا يجوز إبعاد الأجنبي المقيم بصفة قانونية في إقليم دولة طرف في هذا العهد إلا تنفيذا لقرار اتخذ وفقا للقانون، وتجدر الإشارة إلى أن العراق هو أحد الدول المنضمة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تكفل حرية السفر.

 

 وفضلا عما تقدم هناك اتفاقيات إقليمية أكدت حق السفر

ضمانات حرية السفر على وفق الاتفاقية الأوربية لحقــوق الإنسان ١٩٥٣.

ضمانات حرية السفر على وفق الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان ١٩٧٨.

ضمانات حرية السفر على وفق الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب ١٩٨٦.

ضمانات حرية السفر على وفق الميثاق العربي لحقوق الإنسان ١٩٩٤م.

تأسيساً على ما تقدم تحول العراق إبان حكم البعث إلى سجن كبير، وانقطعت اتصالاته مع العالم الخارجي، عموماً أن هذه التشريعات كانت خطة بعثية لعزل الإنسان العراقي عن العالم الخارجي، وعدم اطلاعه على الأنظمة الديمقراطية في العالم، وجعله إنساناً منغلقاً على شعارات الحزب الواحد وواجهاته، فضلاً عن ذلك أن الهاجس الأمني كان ملازماً لسلطة البعث حتى سقوطها عام 2003، فقد كان ينظر لمن يسافر، أو يأتي إلى العراق نظرة شك وريبة، وتأخذ الأجهزة القمعية بمراقبته، واستجوابه لمدة من الزمن.

 

حرية السفر في دستور 2005

أما الدستور العراقي لعام 2005؛ فقد ضمن للعراقي حرية التنقل، والسفر، والسكن، سواء أ كان ذلك داخل العراق، أم خارجه، ولم يعلّق ذلك على صدور قانون ينظم تلك الحقوق، بل أعدّها من الحقوق الأساسية الواجب ضمانها للمواطن العراقي، استناداً لأحكام المادة (44) من الدستور؛ لذا فإن على مؤسسات الدولة جميعاً سواء كانت خاضعة للسلطات الاتحادية، أو الإقليم، أو المحافظات غير المنتظمة في إقليم عدم اتباع أي أسلوب، أو إجراء يؤدي إلى عدم تمتع المواطن العراقي بتلك الحقوق، ولاسيما أن المادة (23/ ثالثاً / أ) من دستور جمهورية العراق أجازت للعراقي حق التملك للعقار والمنقول في أي مكان من العراق، وعدم جواز نفي العراقي، أو إبعاده، أو حرمانه من العودة إلى الوطن، وهي من الحقوق الأساسية الواجب ضمانها، وعدم التجاوز عليها، وأن حق المواطن في حمل جواز السفر يظهر رافداً من روافد حريته الشخصية، وتعبيراً عن حقه في المواطنة، وإن جواز السفر هو مستند تصدره الدولة للعراقي؛ لكي يتمكن من ممارسة حقه الدستوري بالسفر خارج العراق، والعودة إليه، ومن ثم فإن الحرمان منه يعدّ حرماناً للمواطن العراقي من ممارسة حقه الدستوري المذكور، وإن النص على ذلك في أي تشريع يعدّ مخالفاً لأحكام الدستور، ويحكم بعدم دستوريته.

 

المصادر

  1. فيصل شنطاوي، حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، الطبعة الثانية، دار الحامد، عمان، ٢٠٠١.
  2. جوزيف مغيزل، حقوق الإنسان الشخصية، الطبعة الأولى، منشورات عويدات، بيروت، ١٩٧٢
  3. إبراهيم سيد أحمد، المنع من السفر والتحفظ على الأموال فقهاً قضاءً، الطبعة الأولى، منشأة المعارف، الإسكندرية،
  4. جابر إبراهيم، حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في القانون الدولي والشريعة الإسلامية، الطبعة الثانية، دار وائل للنشر، الأردن، ٢٠١٠
  5. عبدالله حميد العتابي، المساءلة والعدالة تشريعات البعث في ميزان حقوق الإنسان 1968 – 2003، الطبع الأولى، دار الوارث، 2015.
  6. مناف سليم حسون، قرار منع السفر في قانون المرافعات المدنية، مجلة الجامعة العراقية،2023.