د. قيس ناصر
المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف
يُقصَد بالاختفاء القسري الاعتقال، أو الاحتجاز، أو الاختطاف، أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص، أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن الدولة أو دعمها، أو بموافقتها، وذلك بناء على المادة الثانية من ديباجة الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وعلى وفق منظمة العفو الدولية، قد يقوم بعمليات الإخفاء عناصر مسلحة غير تابعة للدولة، مثل جماعات المعارضة المسلحة، ويعد الإخفاء دائماً جريمة بموجب القانون الدولي.
وفي سياق الدولة العراقية، فإنه في الثالث والعشرين من تشرين الثاني 2010م، أصبح العراق الدولة العشرين التي تُصادق على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.
إن الاختفاء القسري جريمة يمتد ارتكابها في العراق إلى عقود، ولاسيما مع تسنم حزب البعث السلطة في أواخر الستينيات من القرن العشرين، إذ تم إخفاء مئات الآلاف من العراقيين قسراً؛ بسبب انتماءاتهم الدينية والعرقية والسياسية، وبعد 2003م، لم تختفِ هذه الجريمة، إذ ظهرت بقوة في المدة بين 2014-2017م، بعد استيلاء تنظيم داعش الإرهابي على أراضٍ واسعة من العراق، وارتكب آلاف حالات الاختطاف، ولم تنتهِ إلى اليوم آثار جرائم الاختفاء القسري، سواء مع حقبة نظام البعث، أم مع جرائم الاختطاف التي ارتكبتها الجماعات الإرهابية.
إن حالات الاختفاء القسري، من الملفات الرئيسة التي عمل عليها المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف، سواء في توثيق المقابر الجماعية – المكتشفة منها- للمختفين قسراً من ضحايا نظام البعث، أم توثيق حالات الناجين من سجون البعث ومعتقلاته، فضلاً عن العمل على ملف المختطفين والمفقودين من ضحايا التنظيمات الإرهابية مثل داعش وغيره، والجرائم التي ارتكبها داعش في اختطاف نزلاء سجن بادوش، ومعسكر سبايكر، والنساء الإيزيديات والتركمانيات.
ولم يقف عمل المركز العراقي عند التوثيق فحسب، إنما أسهم مع مؤسسات أخرى على تحرير إحدى المختطفات من تنظيم داعش، وعمل على توفير مقبرة خاصة بضحايا نزلاء بادوش بعد التعرف على هويتهم من خلال تحليل DNA بالتزامن من الاشتغال على العديد من ملفات الاختفاء القسري والاختطاف الأخرى، التي لا يسع المجال لذكرها.
وفي سياق العمل أعلاه، شارك المركز العراقي في المؤتمر الذي عقدته (مبادرة الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري) في جنيف للمدة من 15-16 كانون الأول، وتهدف المبادرة إلى تشجيع الدول على التصديق على الاتفاقية وإعمال مقتضياتها، وإلى تيسير الحوار والتنسيق والتعاون بين مختلف الجهات المعنية بمكافحة الاختفاء القسري، وبمتابعة المرتكبين، وحماية حقوق الضحايا وذويهم، على وفق المعايير الدولية ذات الصلة. ووجد المركز العراقي أن هذا المؤتمر ينسجم وطبيعة عمله الذي يشتغل عليه في العراق، ولاسيما أن من الملفات الحالية التي يهتم المركز بإنجازها هو عقد مؤتمر في نيسان 2025م بعنوان (ذاكرة الألم في العراق قرن من الإبادات والجرائم والانتهاكات)؛ وذلك من أجل صناعة مستقبل خال من الألم.
لهذا يمكن الإفادة من محاور مؤتمر مبادرة الاتفاقية الدولية التي حضرها أعضاء المركز سواء حضورياً أم إلكترونياً، التي توزعت على:
- مكافحة الإفلات من العقاب: ضمان المساءلة الدولية لمرتكبي جرائم الاختفاء القسري.
- ربط الضحايا ومنظمات المجتمع المدني بآليات الأمم المتحدة: كيفية تعزيز المشاركة الفعالة.
- الدعوة إلى المصادقة الدولية على الاتفاقية كاستراتيجية ناجحة.
- تمكين ضحايا الاختفاء القسري من خلال ضمان حقوقهم، وتقديم الدعم متعدد الاتجاهات.
- الأدوات القانونية لمكافحة الإفلات من العقاب: فهم الولاية القضائية الدولية وممارستها.
- أثر الفن في النضال من أجل العدالة.
- تعزيز عمليات البحث: الدروس والمسارات الرئيسة للبحث الفعال.
- الأطفال كضحايا للاختفاء القسري.
- الاختفاء القسري في سياق الهجرة.
- حماية الضحايا والمدافعين والمهنيين، بما في ذلك المحامون والصحفيون.
- الحجج المؤيدة للتصديق على الاتفاقية وتنفيذها.
- تأثير الاختفاء القسري على النساء.
كذلك تضمن المؤتمر فعاليات جانبية، مثل:
- تحديد الأولويات الرئيسة في العمل الإقليمي.
- إنشاء شبكة شبابية دولية.
ونقلاً عن الخبير القانوني سعد سلطان (مسؤول تنسيق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المبادرة) إن عدد المشاركين في المؤتمر أكثر من 600 شخص، وتضمن تمثيل أكثر من 120 دولة، وأكثر من 50 منظمة.
ويمكن مقاربة محاور مؤتمر مبادرة الاختفاء القسري التي حضرها أعضاء المركز العراقي مع طبيعة عمل المركز، مثل المحور الخاص بربط الضحايا ومنظمات المجتمع المدني بآليات الأمم المتحدة حول كيفية تعزيز المشاركة الفعالة. فالمركز العراقي يؤمن بأنّ الاختفاء القسري يؤثر على العائلات والأفراد، ولديه استبيانات حول هوية المفقود، متى اختفى؟ وما الدلائل التي يمكن أن تسهم في الحصول على معرفة مصيره؟ ويعمل على إعداد قاعدة بيانات متكاملة عن الضحايا، والتعاون مع ذوي المختفين قسراً، والمختطفين، وإبلاغهم بالخطوات التي يقومون بها.
ومن المحاور المهمة الأخرى للمؤتمر كانت ورشة برعاية المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ) عن أثر الفن في النضال من أجل العدالة، وهذا الموضوع مهم جداً؛ لأن الفن له القدرة بشكل كبير على وصف جرائم حقوق الإنسان، ومنها الاختفاء القسري، وتضمن هذا المحور موضوعات عدة، منها: توظيف الانيميشن في التوثيق من أجل إخفاء هوية الشهود، وتحقيق المرونة، والقدرة على استهداف أكبر فئة ممكنة من ( الشباب، وصناع القرار)، والفلم من أجل ملامسة القلوب؛ لأن لغة الفن هي لغة الجميع، وليس هدف الفن نشر الحزن، إنما يهدف لمناصرة الضحايا وذويهم. وهذا الموضوع مهم جداً، ويسعى المركز العراقي إلى الإفادة منه في التجربة العراقية، وقد وضع محوراً خاصاً عن أثر الفن في توثيق ذاكرة الألم في مؤتمره القادم خلال نيسان 2025م، ومن المقرر إقامة فعاليات عدة في هذا السياق. فالتجارب الدولية غزيرة في هذا المجال، سواء من خلال إنشاء المتاحف، أو إنتاج الأفلام، وإقامة المعارض، وتأليف الكتب الخاصة بتوثيق ما جرى، بل إن إحدى التجارب التي عُرضت في مؤتمر المبادرة تحدثت فيها كاتبة مكسيكية وبطريقة لافتة عن الفن والثقافة ودورهما في حفظ الذاكرة، من خلال دور الطبخ في توثيق الاختفاء القسري وبناء الذاكرة, وذلك عبر توثيق أنواع الأكل الذي كان يتناوله المختفين أو السجناء والمعتقلين.
وفي محور آخر تضمن ورشة عن تنسيق عمليات البحث والتحقيق، وشارك فيه أربعة متداخلين، ولا سيما تنسيق آليات البحث بمعية القضاء؛ من أجل التحقيق الجنائي بالاختفاء. وقد أكد المتحدث بضرورة أن تشارك الأسر في المسار البحثي غير القضائي؛ لأن أقرباء المختفين لا يحتاجون عروض أكاديمية وفنية، بل إنهم لهم اندفاعهم، ويجب أن نستفيد منهم. ولكن هذه الآلية غير القضائية لا تنشد العدالة، بل تلبية الاستجابة لمعرفة الحق ما الذي حصل مع ذويهم؟ وهنا (الحق في المعرفة)، في حين المسار القضائي هو (الحق في تحقيق العدالة).
وهنا يُطرح سؤال كيف يتكامل هذان المساران؟، فإن المسار غير القضائي يُمكن أن يُدلي بمعلومات، وهنا تكامل بين المسارين. وفي عمل المركز العراقي، فإنه يسعى إلى تحقيق (الحق في المعرفة) و(الحق في تحقيق العدالة) من خلال التنسيق مع ذوي الضحايا وتجمعاتهم، وإيصال صوتهم إلى المؤسسات الحكومية العاملة على تحقيق العدالة .
وتضمن ختام مؤتمر مبادرة الاختفاء القسري خطة عمل، سيعمل المركز العراقي على توظيفها بما ينسجم مع السياق الوطني الذي يعمل فيه والمرتكزات الإنسانية التي ينطلق منها، من خلال تبني أطر منهجية لحماية الجميع من الاختفاء القسري، مع دعم آليات حقوق الإنسان عبر التعاون مع آليات الأمم المتحدة.
وختم مؤتمر المبادرة الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري أعماله في جنيف بإقرار خطة عمل تتضمن ستة محاور رئيسة:
- دعم إنشاء شبكة إقليمية بقيادة الضحايا في إفريقيا جنوب الصحراء.
- تنظيم اجتماعات سنوية لنساء البحث عن المفقودين.
- مراقبة جلسات لجنة الاختفاء القسري (CED).
- تعزيز المصادقة على الاتفاقية الدولية.
- تعزيز قدرة منظمات المجتمع المدني على التعاون مع آليات الأمم المتحدة.
- بناء شبكة شبابية دولية ضد الاختفاء القسري.