banarlogo

انتهاكات نظام البعث لنصوص الدستور العراقي المؤقت 1970 – الجزء الثاني –

أ.د. حسين الزيادي

 

 

    تأتي هذه المقالة ضمن سلسلة مقالات تتناول تباعاً انتهاكات نظام البعث لنصوص الدستور العراقي المؤقت 1970، علماً أن هذا الدستور وُضِع بعد سيطرة حزب البعث على السلطة، وكان يُعدّ إطاراً قانونياً لتأسيس نظام سياسي يقوم على الديمقراطية والمساواة، ومع ذلك شهدت مرحلة حكم حزب البعث سلسلة من الانتهاكات لهذا الدستور؛ بهدف تعزيز قبضته على السلطة، وانتهاكات حزب البعث لدستور 1970 لم تكن مجرد تجاوزات قانونية، بل مثّلت استبداداً سياسياً واستغلالاً للسلطة، فيما يأتي أبرز الانتهاكات التي ارتكبها الحزب:

 

 

المحاكم الخاصة والمحاكمات الموجزة

وانتهاك حق الدفاع

 

إن الإطار الدستوري الذي اتَّكَأ عليه نظام البعث في إنشاء المحاكم الخاصة هو المادة الثانية والأربعون من دستور 1970م، التي أعطت صلاحيات واسعة لمجلس قيادة الثورة من ضمنها إصدار القوانين والقرارات التي لها قوة القانون، وبالتالي أصبحت تلك المادة ركيزة أساسية يُعتمد عليها في انشاء المحاكم الخاصة، ولم يكتفِ دستور 1970 بذلك، ففي الفصل الثالث الخاص بصلاحيات رئيس الجمهورية، وتحديداً في المادة الساسة والخمسين/ د أعطى للرئيس صلاحية تعيين الحكام، والقضاة، وترفيعهم، وإنهاء خدماتهم، وإحالتهم على التقاعد، وعلى الرغم من أن الدستور المؤقت لعام 1970 أكد ضمان المحاكمة العادلة، إلا إن النظام استخدم الصلاحيات الاستثنائية لرئيس الجمهورية لتجاوز النظام القضائي التقليدي، وإنشاء محاكم خاصة غير دستورية هدفها الأساس إضفاء صفة قانونية على تصفية المعارضين من خلال محاكمات صورية، إذ كانت الأحكام تُعد مسبقاً من قبل الأجهزة الأمنية، بل أن البعض من تلك الأحكام كانت تأتي بعد تنفيذ الإعدام بشكل استدراكي.

وقبل دستور 1970 كانت الفقرة الرابعة والأربعون من دستور عام 1968 قد شرعت إنشاء المحاكم الخاصة، فقد نص هذا الدستور في الفقرة السابعة: إن لمجلس قيادة الثورة صلاحية إصدار قرارات لها قوة الإلزام وفقا لإحكام الدستور، والقوانين النافذة، وأشارت الفقرة الثامنة أن لمجلس قيادة الثورة صلاحية إصدار القوانين التي لها قوة القانون.

تضمنت المادة (20) من دستور 1970 المؤقت حق المتهم في الحصول على محاكمة عادلة، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية، وأن حق الدفاع مقدس في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة، وتكون جلسات المحاكم علنية، إلا إذا قررت المحكمة جعلها سرية، وعلى الرغم من ذلك أنشأ النظام البعثي محاكم خاصة في أوقات متفاوتة، ومنها ما يعرف بمحكمة الثورة، ومحكمة الداخلية والدفاع، ومحكمة المخابرات، وهذه المحاكم لم تلتزم بأدنى المعايير القضائية العادلة، فأصدرت أحكاماً تعسفية من دون مراعاة حقّ الدفاع، وكثير من المحاكم الخاصة ترأسها أناس لا علاقة لهم بالقانون، فضلاً عن كونهم من أركان السلطة الحاكمة، وغير مؤهلين لإدارة المحكمة.

لقد أوغل نظام البعث في تحجيم دور السلطة القضائية، من خلال إنشاء قضاء موازٍ للقضاء الذي كان يتبع وزارة العدل، وهذا النوع من القضاء كان يستند إلى إنشاء محاكم خاصة بعيدة عن وزارة العدل، وأوكل لها النظر بمجموعة من القضايا التي تم اجتزاؤها من قانون العقوبات، وقوانين أخرى، فكان هناك نوعان من القضاء، النوع الأول هو القضاء الاعتيادي المتمثل بمحاكم البداءة، والجنايات، والمحاكم الإدارية والجزائية، والأحوال الشخصية وغيرها، أما القضاء الآخر فهو قضاء يتعلق بالقضايا السياسية التي تخص أمن السلطة، أو القضايا التي يقرر رئيس الجمهورية إحالتها للمحكمة، وهو قضاء لا يرتبط بالقضاء الاعتيادي بأي شكل من الأشكال، ومن أمثلة هذا القضاء هو إنشاء محكمة الثورة، وما تلتها من محاكم خاصة، وقد تميزت هذه المحاكم بالآتي :

  1. تكون قراراتها قطعية لا تخضع للطعن والتمييز.
  2. يتضمن عمل جدول أعمال بعض المحاكم الخاصة أعمالاً واسعة، ففي الوثيقة المرفقة، والمرقمة 1731 في 29-5-1983، والصادرة من محكمة الثورة، تم إعدام خمسين شخصاً ضمن جلسة واحدة.
  3. في هذه المحاكم لا يمنح فيها المتهمون حق الدفاع عن أنفسهم، ولا التأجيل، ولا توكيل محام معين من قبلهم، ويفرض محامي انتداب صوري، ولا تستغرق إجراءاتها سوى قراءة قائمة الاتهامات الجماعية، أو الفردية التي أعدت مسبقاً من قبل الجهات الأمنية، ومن ثم تلاوة الحكم الجاهز مباشرةً من دون أية مناقش.
  4. توسعت اختصاصات هذه المحاكم لتشمل القضايا السياسية، والأمنية، والاقتصادية من دون تمييز بين القضايا المدنية والعسكرية، ما جعلها فاقدة لهوية الاختصاص الوظيفي: وهي مجموعة القواعد القانونية التي تبين النزاعات التي يفصل فيها القضاء، وأن تلك المحاكم فاقدة للاختصاص النوعي، وهي مجموعة القواعد القانونية التي تعين الجهة القضائية التي تنظر الدعوى؛ إذ إن كل محكمة تختص بنظر نوع معين من الدعاوى بنص القانون، فالاختصاص النوعي مستبطن في الاختصاص الوظيفي.
  5. إن عمل هذه المحاكم يتداخل مع القضاء الجنائي والقضاء الاعتيادي لأن الأخير لم تكن له أي سلطة على الأحكام الصادرة عن المحاكم الخاصة، بل إن المحاكم الخاصة لها صلاحية سحب القضايا من القضاء الاعتيادي.
  6. من الانتهاكات الصارخة لهذه المحاكم قيامها بإصدار الآلاف من أحكام الإعدام، والسجن المؤبد من دون حضور المتهم.
  7. من ناحية الآليات الإجرائية والقوانين المنظمة، لم تكن هذه المحاكم تخضع لقوانين أصول المحاكمات الجزائية، بل كانت تعمل على وفق أوامر الأجهزة الأمنية والمخابراتية.
  8. لم تعترف هذه المحاكم بمبدأ علانية المحكمة؛ فقد كانت جلساتها تعقد بشكل سري، أو بحضور معين، وغالباً ما كانت تتم في مقرات الأجهزة الأمنية، بدلًا من قاعات المحاكم التقليدية.
  9. لم تكن هناك معايير قانونية لاختيار القضاة، بل كان تعينهم يقوم على أساس الولاء والخضوع للسلطة، والملفت للنظر أن رئاسة محكمة الثورة على سبيل المثال أنيطت بعواد حمد البندر، ولمدة سبع سنوات، على الرّغم من أنَّه ليس قاضياً، ولم يُعرف عنه أنه تخرّجَ من المعهد القضائي، فهو خريجُ كلية الحقوق، وشغلَ منصبَ مدير الشؤون القانونية في مؤسسة الموانئ العراقية بالبصرة في بداية السبعينات، ثم تولّى مسؤوليةَ الشؤون القانونية في مجلس قيادة الثورة عام 1977، بعدها استلمَ رئاسةَ محكمة الثّورة عام 1979م، حتى عام 1991، وعمل بعدها نائباً لرئيسِ ديوان رئاسة الجمهورية، وهذه السيرة تؤكد عدم استقلالية هذه الشخصية، وكونه كان تابعاً للسلطة، ويأتمر بأوامرها، بل هو أحد رموزها.

ومن أبرز القضايا التي أوكلت إلى محكمة الثورة هي قضية الدجيل التي أحيل فيها 148 معتقلا، وكان عدد كبير من المحالين في تلك القضية من الأحداث، وقد صدر أمر الإعدام في يوم واحد، وبعد يومين صدر المرسوم الجمهوري بالإعدام، ومن المفارقات أن بعض الذين حكموا بالإعدام كانوا مقتولون في أثناء التعذيب في سجون الأجهزة القمعية، ولم يعرف أحد بحضور المتهمين إلى قاعة المحكمة؛ لأن المحاكمة كانت سرية، وبطبيعة الحال لا يمكن لأقفاص الاتهام أن تتسع لهذا العدد الكبير، أما جثث المعدومين فلم يتم الاهتداء لمواقعها، ولم تسلم للأهالي، ويبدو أن هناك استهانة كبيرة بحياة البشر، وهذا ما دلّ عليه كتاب جهاز المخابرات المرقم م.ك /٦١٧/ش١/١٢٨٢ بتأريخ ٣/٣/١٩٨٧، أي بعد سنتين من تنفيذ حكم الإعدام بـالمحالين الـ ١٤٨؛ إذ اكتشفت السلطة أن اثنين من المحكومين بالإعدام لا يزالان على قيد الحياة، ولا ندري كيف تم تنفيذ حكم الإعدام؟، وهل هناك طبيب قام بالتحقق من الوفاة؟.

وتأسيساً على ما تقدم يكون النظام السابق قد أحكم استيلاءه على السلطة القضائية، وجعلها أداة لخدمة أهداف القيادة السياسية، وتحقيق رغباتها، وتصفية المعارضين، فضلاً عن عدم الاكتراث بحق المتهم في حظر تطبيق القوانين الجنائية بأثر رجعي، أو عدم محاكمة المتهم عن ذات الجريمة مرتين، واستخدام العقوبات الأشد قسوة مقارنة بالقوانين المطبقة بالمحاكم الاعتيادية، وهذا ما يبين تبعية القضاء للسلطة الحاكمة، ومن أبرز القضايا إعدام 148 شخصاً في قضية الدجيل من دون محاكمة عادلة، تكشفت صوريتها خلال عرض وثائق القضية خلال محاكمة النظام السابق في قضية الدجيل أمام المحكمة الجنائية العراقية العليا، وأحكام إعدام صدرت على وفق محاكمات صورية بعد انتفاضة 1991.

تأسيساً على ما تقدم يمكن القول إن إجراءات نظام البعث الخاصة بإنشاء المحاكم الخاصة يعد مخالفة صريحة للمادة (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تنص على حق كل فرد في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مختصة ومستقلة ونزيهة، وعلى أن حق الدفاع مكفول في جميع مراحل الإجراءات القضائية.