د. رائد عبيس
ارتكب حزب البعث العراقي بحق الأكراد أبشع الجرائم وأفظعها، إذ عمد إلى اتباع أساليب إجرامية فريدة، لم تكن قد استعملت بحقهم من قبل، مثل استهدافهم بالغاز السام، والأسلحة الكيمياوية في عمليات الأنفال سيئة الصيت، هذا بالإضافة إلى عمليات تهديم قراهم، وتهجيرهم من مناطق سكناهم، وبأعداد كبيرة منهم، خارج العراق وداخله.
قد كسبت هذه الأفعال الإجرامية التي قام بها النظام البعثي الصدامي توصيفات مختلفة، تنوعت بين كونها جرائم وقتية، أو جرائم متتابعة، أو متوالية، أو كونها جرائم متجددة، أو جرائم مستمرة على مستوى الآثار، أو مستوى النتائج، ويمكن أن تُعد كذلك بكونها جرائم التي لا تلبس بها؛ لأن وقت اكتشافها يأخذ وقتاً طويلاً. وهو ما ينطبق على جزء من موضوع المقابر الجماعية.
في جرائم صدام حسين مع الأكراد يتنوع توصيف الجريمة، بل يتعقد كثيراً، فبين كونها جرائم مركبة إذ إنها تنطوي على أكثر من فعل، وأكثر من قصد جرمي، أو أكثر من غرض ومشروع إجرامي. فمرة يكون فعله الإجرامي موجهاً إلى جماعة قومية معينة، أو إلى جماعة سياسية ما أو طائفة معينة, ومرة أخرى يكون ضد أفراد سواء كان ذلك بفعل إجرامي بسيط، أو جريمة اعتياد، أو جريمة وقتية، أو متجددة ومستمرة.
فالمأساة المتكررة على الشعب العراقي عموماً، والكردي خصوصاً، هو الاكتشاف المتوالي للمقابر الجماعية التي اقترفها صدام حسين وحزبه بحقهم. وهي عبارة عن جرائم اعتياد، وجرائم متوالية، وجرائم مستمرة، تحققت واقعاً بفعل السلوك الإجرامي بكل أركانه في كل عملية قام بها النظام ضد الكرد.
تخيل عزيزي القارئ، ما قام به النظام البعثي القاتل بحق شعبه، ونحن نكتشف بعد أكثر من (40) عاماً مقبرة جماعية لنساء وأطفال رضع من القومية الكردية، وكانت قد اكتشف يوم السبت الموافق 21/12/2024، وأعلنت عن ذلك دائرة المقابر الجماعية، كانت قد عصبت عيونهم، وقيدت أرجلهم وأياديهم، ونفذت بهم عملية إطلاق النار في منطقة الرأس، ومناطق متفرقة من أجسادهم. كانت كل آثار الجريمة توحي بإرادة قاتلة، وقصد إجرامي بعيد المدى من هذه العملية، ولو تتبعنا مسار هذه الجريمة وحيثياتها وظروفها لصار من الواضح أن الهدف البعيد الذي يرنو له النظام هو الإخفاء التام لهذه الجريمة، والإبادة الحقيقية لهذه القومية.
فاستمرار هذه الجريمة متحقق بإرادة الجاني منذ أن تملكته إرادة الإثم، والقتل، والتفكير المسبق، والشروع بالتنفيذ في رحلة طويلة لأطفال ونساء تم اعتقالهم من منازلهم ، وقراهم ، ومدنهم، بطريقة الخطف، والإخفاء القسري، والتغييب، وهذه جرائم متعددة بفعل واحد، ومن ثم نقلهم عبر رحلة مسير من الشمال إلى محافظة السماوة، وبعدها إلى موقع صحراوي يبعد ما يقارب 100 كيلو متر عن مركز هذه المحافظة؛ لينفذ بهم عملية قتل في ظروف غامضة، وبعدها يقوم بدفنهم جماعياً في مدفن جماعي، القصد هو إخفاء جثة قتلى إلى الأبد. وهذه جريمة ثالثة تضاف إلى جريمة التغييب، وجريمة قتل الرمي بالرصاص، وجريمة إخفاء جثث!!
وهنا يُثار سؤال، ما الذي يجعل نظام البعث أن يأتي بهؤلاء الناس من الشمال إلى الجنوب؛ لينفذ بهم عملية قتل بهذه الظروف الغامضة، وبقصد إخفاء عملية قتل وجثث طيلة هذه المدة؟.
هل أن النظام يخاف مثلاً من عمليات القتل؟ وهو الذي أعتاده بشكل طبيعي ولاسيما مع الأكراد ! لماذا لم ينفذ بهم ما أرده في أماكن سكناهم كما فعل مع غيرهم؟
هذا بالطبع يؤكد القصد الجرمي لهذه النظام، وهو الإخفاء المتعمد لأثار هؤلاء الضحايا، ويؤكد تواصل إجرامه واستمراره بحق الآخرين من ذويهم الذي ألحق بهم أضراراً مباشرة وغير مباشرة بقيت تبعاتها إلى يومنا هذا، عبر استهداف واضح لإبادة الكرد، وهي جريمة رابعة تضاف إلى توصيف هذه الجريمة المستمرة بكونها إبادة جماعية بحق القومية الكردية، والذي رفع توصيف استمرارها مع كشف هذه المقبرة، وإحالة حيثياتها للتحقيق الجنائي والأنثروبولوجي.