banarlogo

المقابر الجماعية في العراق هل يمكن تجاوز شواخص المقابر؟

د. رائد عبيس

 

    لهذا الموضوع أهميته الاستثنائية في تاريخ العراق المعاصر، منذ أول حكومة تأسست فيه، وحتى آخر حكومة نشهد تمثيلها الاجتماعي والسياسي ما بعد المئوية. إذ يشكل فيها السؤال عن حقيقة هذه الأهمية المستمدة من قسوة التجربة في الحكم، والتعامل مع من أصبحوا ضحايا فعليين لسوء التجربة في مسرح جريمة تسمى “مقبرة جماعية ” والجرائم بهذا الحجم قد نجد لها وجودها الفعلي في تاريخ الاضطهاد الحكومي، والإبادة، والتعسف، والقهر، والاستبداد الذي مارسته سلطة المجاميع، والأحزاب، أو سلطة الحكومة بحق المجتمع وأقلياته، والفئات المستهدفة فيه.

وبما أن الحقائق لم توثق بما يكفي عن كل ممارسات الانتهاكات هذه، وبقيت متناثرة بين صفحات تاريخ ينتصف الحقيقة، وشهادات متناقضة بين رواة الشهود المعاصرين عن قرب أو عن بعد. ألتبس الأمر في هذه الانتهاكات، وبقيت بين ترجيحات التفضيل، أو الرضا بها، أو الانحياز للرواية الرسمية، أو الإدانات الشكلية، وعدم تشخيص المشاكل بوعي تام عنها، وأسس علمية مستوفية لكل حقائق الأمور، مما عقّد الحديث عن موضوع المقابر الجماعية، وأخفى الحقيقة طيلة هذا الزمن من الانتهاكات.

الحديث عن أنثروبولوجيا المقابر الجماعية في العراق له خصوصيته على جميع المستويات، ومنها وأبرزها البعد التأسيسي والتخصصي. كما أن السياق الاجتماعي ما قبل 2003 غير سياقها الاجتماعي ما بعد 2003، وثقافة التعامل مع المقابر الجماعية على المستوين الرسمي والشعبي يعوزها الوعي بالسياق الأنثروبولوجي، والثقافي، والسياسي التام.

فعلى مستوى السياق الاجتماعي، فمثلاً كان بعض من أفراد المجتمع قبل 2003 يعلمون بوجود مقابر جماعية في أماكن مختلفة بعضها سكني، والبعض الآخر زراعي، أو صحراوي، ولكن ما كان يحول بينهم وبين أبنائهم الضحايا هو الخوف من السلطة البعثية الجائرة، الخوف من الحديث عنها، والخوف في الإخبار عنها، والخوف في التعامل معها، والخوف من الاقتراب منها. فكان العامل السياسي والأمني حائلاً عن اكتشاف الحقيقة وإعلانها، وهم يعلمون جيداً بأن البعث الصدامي كان يعمد إلى إخفاء هذه المقابر ليس فقط خوفاً من ردود فعل المجتمع، فهو محكم السيطرة عليه، بل كان له بعد اجتماعي مقصود، وهو الحط من قيمة الضحية أولاً، وثانياً ألحاق الأذى النفسي والاجتماعي الدائم بحق أهاليهم، وهو ينتظرون عودة أبنائهم المغيّبين، وبمزيد من القلق، والخوف المصاحب لكل هذا الانتظار، فضلاً عن شعور الأمل الخائب من العودة المحتملة، فيما لو تزايدت لديهم تأكيدات الموت الحتمي. فالنظام البعثي هنا أخفى الحقيقة، ودفع بعوامل الخوف إلى أن تكتم الحقيقة ضمن سياق هيبة السلطة، وهذا لعمري أكبر جناية كان قد أرتكبها النظام بحق شعبه، إذ زرع فيهم زيف القيم، وعدم قول الحقيقة، واللامبالاة للموت وحيثياته. والاستخفاف بكل حقوق الأحياء من أهلي الضحايا المغيبين في المقابر، وحقوق الموتى في الدفن الكريم واللائق. مع بقاء السؤال الجنائي مفتوح، لماذا تم قتلهم، ودفنهم بهذه الطريقة الوحشية؟ ولماذا أرتكبت جرائم المقابر الجماعية بحق الشعب العراقي في عهد النظام البعثي وما قبله ؟

هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها فعليا قبل 2003 في ظل وجود النظام البعثي قائم في السلطة؛ لأن سبل الإجابة غير متوفرة لا على المستوى القانوني، وعلى المستوى القضائي، ولا الأمني، ولا السياسي، ولا حتى الاجتماعي؛ لأن الناس تتواصى بالحذر من الخوض في هكذا مشاكل.

وبقي للسياق الاجتماعي السلبي أثره المباشر على موضوع المقابر الجماعية في العراق حتى بعد 2003، من حيث الإخبار عنها، أو الاهتمام بها، أو حتى تقدير أهميتها؛ لكونها أضفت مشاكل مستدامة على كاهل الدولة والمجتمع طيلة عقود خلت، وما زالت. وإن كانت هناك مبادرات فردية، أو اجتماعية محدودة جداً، تنطلق واقع الحال من اعتزاز الأهالي بضحاياهم وأبنائهم، تمثلت بوضع صور للضحايا في مقتربات هذه المقابر، أو في الطرقات مع الكتابة عليها على أنهم شهداء المقابر الجماعية؛ للتعريف بهم، وبجرائم حزب البعث، وهي في العادة وقتية ربما تتعرض للتلف، أو الإهمال، أو العبث، والاندثار، أو حتى الإزالة.

أما على مستوى السياق الثقافي، بقي هذا الموضوع يعتمد على مبادرات ذاتية، – دون الاهتمام الرسمي الواضح – من قبل ذوي الضحايا، أو من كان له اهتمام به، من شعراء، بكتابة القصائد من  قبل الأدباء في كتابة قصة، أو رواية، أو تأليف كتاب، أو مقالة، أو أي جهد فني في توثيق جريمة المقابر الجماعية، كالرسم والنحت ونصب الشواخص، وإن كانت نادرة جداً، بل قد تكون معدومة قياساً مع أعداد المقابر، وأماكنها، وأعداد ضحاياها، أو حتى إضفاء الاهتمام القومي على ضحايا من فئة من دون ضحايا فئة أخرى لدوافع قومية, أو دينية, أو اجتماعية ، كما هو الحال مع الكرد في إقامة نصب لمقابر جماعية للضحايا من العائلة البرزانية أو مثال النصب الذي أقامته وأشرفت عليه الأمم المتحدة للضحايا الأيزيدين في جريمة المقابر الجماعية الذي ارتكبت بحقهم من قبل تنظيم داعش الإرهابي. بينما المقابر الجماعية للشيعة لم نر لها أي رمزية في وسط العراق وجنوبه؟! وهنا تبرز أوجه أخرى للسياق الثقافي الذي نحاول أن نبرزه لهذه المشكلة، بكونها مشكلة وطنية؛ لا مشكلة طائفة، أو قومية أو طائفية.

وهنا من لا بد من السؤال، كم شاخص ونصب أنشئ على موقع مقبرة جماعية لتخليد ذكراها ورمزيتها؟ هل تم التعريف بكل هذه المقابر الجماعية التي طالت العراقيين في الشمال والوسط والجنوب ثقافياً ؟

هل تم تجاوز شواخص القبور؟ الجواب على هذه الأسئلة بكلا؛ لأن سياسة ما بعد اكتشاف المقبرة، واستخراج الرفات هو إعداد القبور، ونصب الشواخص، أما من قبل الدولة إذا تعذر التعرف على ذوي الضحية، أو تسليم الرفات إلى الأهالي؛ لدفنها حيث يشاءون، وهنا تنتهي المهمة!

ولعل مرجع ذلك يعود إلى الصياغات القانونية محدودة المهام, والمفتقرة الى استراتيجية ما بعد وضع الشواخص القبرية. كان هذا واضحاً في نص قانون شؤون المقابر الجماعية الأول قبل التعديل رقم 5 لسنة 2006، أما نص القانون المعدل في 2013 فكان قد اقتصر المهمة الثقافية للتعريف بهذه الجرائم في المادة السادسة منه، وخص بذلك وزارة حقوق الإنسان فقط بالتنسيق مع مؤسسة الشهداء التي أشارت إلى ما يحفظ كرامة الشهداء، وحقوقهم المعنوية في المادة الثانية في 1-2 من قانون المؤسسة المشرع بالرقم 2 لسنة 2016، ومن دون مشاركة وزارة لثقافة، ووزارة التربية، ووزارة التعليم العالي الذي لها أثر التعريف بهذه الجرائم في وقت تشريع هذا القانون، وإن جاء متأخراً في مناهج وزارة التعليم العالي من خلال منهج جرائم حزب البعث الذي يدرس للمرحلة الثانية من المرحلة الجامعية الأولية. أما على مستوى بناء وتشييد صروح ومعالم لهذه المقابر كما أشار لذلك القانون فلا يوجد البتة! وإن كنا نعد ذلك ضمن السياق القانوني لجرائم المقابر الجماعية، فيمكن أن نؤكد أنه قصور تشريعي واضح، مع قصور تنفيذي.

فلكي نتجاوز شواخص المقابر الجماعية كمعالم مادية رمزية أو فعلية فقط، والتعامل معها بهذه المحدودية، علينا أن نؤسس فعلياً لتخصص علمي يبحث في حيثيات هذه الجريمة قبل وقوعها، وبعد وقوعها، والسياق العام الذي يكتنف موضوعها، سواء كان ثقافياً، أو قانونياً، أو اًجتماعياً، ويتأتى ذلك كله كنتاج طبيعي، لو كان هناك أسس علمية تخصصية لدراسة هذه الظواهر (المقابر الجماعية) وتبعاتها.

ونحن نعتقد بأن الأسس التقنية والخبرة الفنية لمؤسسة الشهداء، ودائرة المقابر الجماعية المكتسبة في التعامل مع المقابر الجماعية فتحاً وغلقاً، كفيلة بتوفير هذه الأسس المعرفية لتنمية هذا التخصص في العراق، سواء كان على المستوى الجامعي، أو البحثي في مراكز الأبحاث المتخصصة؛ لكون العراق أحد البلدان عينة لمثل هذه الدراسات عالميا.