banarlogo

نظام البعث وثقافة تعليق الجثث.. أهداف ورسائل

أ.د. حسين الزيادي

 

على الرغم من قساوة العنوان لكن الحقيقة تقتضي البلاغة في الوصف، والمصداقية  في النقل والتعبير؛ لتكون شاهداً حياً لتاريخ دموي أسود،  ما تزال ذاكرة البعض تحمل مشاهد منه،  فقد اشتهر نظام البعث الذي امتدت مدة حكمه من عام 1968 حتى 2003 باستخدام وسائل قمعية قاسية؛ لإسكات معارضيه، وترهيب المجتمع، ومن أبرز هذه الوسائل كانت ممارسة ظاهرة تعليق الجثث في الساحات، والأماكن العامة، وعلى أعمدة الكهرباء، والجسور في المدن والقرى، وهذا يمثل قمة الانتهاك الإنساني، ويدخل ضمن ما يسمى بالرعب الجماعي، وهي حالة أصبحت رمزاً لترسيخ السلطة الشمولية المطلقة، وبث الرعب في قلوب المواطنين.

 

الخلفية السياسية والاجتماعية

مع بداية استلام نظام البعث للسلطة في العراق، اعتمد سياسة الحديد والنار؛ للقضاء على أي معارضة داخلية، وكانت البلاد تعيش تحت قبضة مخابراتية مشددة، وسلطة بوليسية شديدة وقاسية، إذ أصبح الخوف والتوجس جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للمواطن العراقي، وأُقيمت مشاهد الإعدامات العلنية، وتعليق الجثث بوصفها رسالة واضحة بأن النظام لن يتهاون، أو يتسامح مع أي تهديد لسلطته.

 

ترهيب المجتمع:

كان تعليق الجثث يتم في الساحات العامة، والأسواق المكتظة بالناس، إذ يُجبر المواطنون على رؤية هذه المشاهد المروّعة، والهدف هو منع المواطن حتى من مجرد التفكير بمعارضة النظام، وكان تعليق الجثث يجري على وفق سياقات معينة؛ ليكون بمثابة استعراض لهيبة النظام وقوته، أراد منه النظام أن يبعث رسائل ترسخ في الأذهان أن أي معارضة ستُقابل بعواقب وخيمة، ومن جهة أخرى تعبر هذه الجريمة عن ثقافة الانتقام، وسيكولوجية التشفي، والتمتع السادي، وأنها تكشف عن عقليات لا تمتلك الصلاحية للشراكة والتعايش مع الآخر، الأمر الذي ينم عن انحراف قيمي، وأخلاقي، وتربوي، وحضاري.

 

تشويه صورة المعارضين:

غالبًا ما يُتّهم الضحايا بالخيانة، أو التآمر، أو التجسس، أو معاداة الدولة، وهي مصطلحات اعتاد النظام على الصاقها بأعدائه، في محاولة لتسويغ القتل أمام الشعب، وكانت اللافتات تُعلق على الجثث بعناوين عريضة متهمة إياهم بشتى أنواع التهم، وأبرز المسوّغات المتعلقة بتعليق الجثث:

  • الانتماء لحزب الدعوة: ففي الثمانينيات، استهدف النظام أعضاء حزب الدعوة الإسلامي، وعلّقت جثثهم في الشوارع والأسواق. كانت هذه الإعدامات تُنفذ بعد محاكمات صورية، أو من دون أي محاكمة.
  • الاشتراك في الانتفاضة الشعبانية (1991): بعد حرب الخليج الثانية، شهد العراق انتفاضة واسعة في الجنوب والشمال، ردّ النظام بوحشية، إذ أعدم آلاف المدنيين والمقاتلين، وعلق جثثهم على أعمدة الكهرباء، والجسور في المدن والقرى المنتفضة.
  • قمع الأكراد وعمليات الأنفال: في إطار حملة الأنفال، لم يتردد النظام في استخدام أساليب التعذيب والترهيب، بما في ذلك تعليق جثث الأكراد الذين اتهموا بالتعاون مع إيران، أو مع الأحزاب الكردية المعارضة.

الأثار النفسية والاجتماعية

  • نشر الخوف: أسهمت هذه الممارسات في نشر الرعب، إذ أصبح العراقيون يخشون الحديث حتى داخل منازلهم؛ خوفًا من التجسس والاعتقال.
  • إضعاف الروح الثورية: كانت رؤية الجثث المعلقة بمثابة رسالة تُثبط عزيمة أي شخص يفكر في معارضة النظام.
  • تشويه النسيج المجتمعي: أدت هذه السياسات إلى انعدام الثقة بين المواطنين أنفسهم، إذ شاع الخوف من الإبلاغ، أو الوشاية التي قد تقود إلى الإعدام، وقد تركت مشاهد الجثث المعلقة، وما حملته من رسائل قمع وترهيب جراحا نفسية واجتماعية عميقة يصعب تجاوزها.

 

شواهد واثباتات

ظاهرة تعليق الجثث من الظواهر التي لمسها أغلب العراقيين، وتواردت الشهادات بحدوثها، وقد بدأها البعث في بداية استلامه للسلطة وتحديداً عام 1969 عندما علقت الجثث في ساحة التحرير لأشخاص حكمت عليهم محكمة الثورة بالإعدام بتهمة التجسس، وهي محكمة خاصة، قراراتها قطعية غير قابلة للطعن، إذ يقول أحد الشهود كنا في أحد الفنادق القريبة في شارع الرشيد في عام 1969، وكان يوما بارداً، وتوجهنا مشياً إلى الساحة، ووجدنا الجثث معلقة كان العدد إحدى عشرة جثة، وكانت هناك ثلاث جثث علقت في ساحة أم البروم في البصرة، كان منظراً مرعباً تناقلته وكالات الأنباء بشيء من التفصيل، كان تسع من الجثث تعود لأشخاص من الجالية العراقية اليهودية، وثلاثة من المسلمين، واثنان من المسيحيين، علماً أن بعض البعثيين أفاد بعد سقوط النظام أن التهم كانت ملفقة.

واستمر مسلسل تعليق الجثث في ثمانينيات القرن الماضي إبان الحرب العراقية الإيرانية؛ إذ تم إعدام الشباب المتخلفين والهاربين من جبهات القتال، وبهذا الخصوص حدثني صديق خرج من العراق عام1991، ويقطن الآن في كندا قائلا: عندما كنا أطفالا في المرحلة الابتدائية في إحدى مدن جنوب العراق إبّان الحرب مع إيران 1980- 1988، أخرجونا من المدرسة خلال ساعات الدوام الرسمي، وتوجهوا بنا إلى أحد النوادي الرياضية التي تقع بالقرب من المدرسة، وهناك شاهدنا بعض الأشخاص وقد رُبطوا على جذوع النخل التي نصبت لتكون أوتاداً في الساحة الترابية للنادي، قيل لنا إنهم (فرارية)، وهي مفردة استعملت أيام الحرب مع إيران، وتعني الجنود الذين يرفضون الاشتراك في الحرب، وأمام كل واحد منهم بضع رجال ملثمون لا يرى منهم سوى فتحات عيونهم، يرتدون الملابس العسكرية – الزيتوني الغامق – وهم مدججون بالبنادق، وبكامل العدة العسكرية، وعلى الجانب الآخر احتشد جمع غفير ممن أجبروا على الحضور إلى هذه الساحة؛ لرؤية المشهد الإجرامي،  وبعد أن اكتمل عدد الحضور من شرائح وطبقات مختلفة، ساد الصمت برهة من الزمن، وتقدم أحد الملثمين، وأخرج ورقة صفراء من جيبه، وتلا أمراً تضمن بعض المواد والفقرات، وأسماء ممن سيشملهم أمر الإعدام، بعدها أمر بتوجيه البنادق باتجاه الجنود، رافعا يده معلناً بداية الإطلاق، أطلق جميع الملثمين وابلاً من النيران باتجاه الضحايا المربوطين على جذوع  النخل، كل مجموعة حسب ما موكل إليها، يقول: لاحظت الرصاص يخترق أشلاء الضحايا بعنف، وينهش في لحومهم، وبعض اللحم يتطاير من الثقوب التي أحدثتها الاطلاقات في أجسادهم؛ بسبب قرب مصدر إطلاق النار، أغلب الرصاص اخترق الأجساد؛ ليرتطم بالجدار الخلفي للملعب، وما أن انتهت الإطلاقات التي سيؤخذ ثمنها من أهالي الضحايا، وتدلت الرؤوس إلى الجانب، وهي ما زالت مربوطة على جذوع النخيل، حتى علت الزغاريد من بعض النسوة اللواتي أسند لهن هذا الدور.

ولم تتوقف ظاهرة تعليق الجثث في تسعينيات من القرن الماضي، ولاسيما بعد الانتفاضة الشعبانية، إذ شهدت الساحات العامة، ولاسيما في محافظات جنوب العراق عشرات الحالات، ففي محافظة ذي قار على سبيل المثال يقول أحد الشهود إنه في صبيحة اليوم السابع من شهر آذار عام 1995 تم تعليق جثتين لرجلين كانا معارضين لنظام البعث تم قتلهما في مناطق الأهوار التي كانت ملجأ للمعارضين والرافضين لطغيان النظام، وذكر لي أحد الذين عايشوا تلك المرحلة، وكان يمتلك دكاناً لبيع لمواد الغذائية: إن جثث معارضي النظام وضعت في السيارات الحكومية المكشوفة التي بدأت تجوب سوق المدينة؛ لغرض إرهاب الجميع .

 

الجانب القانوني من الانتهاك

عقوبة الإعدام من الناحية القانونية: هي جزاء يقع باسم المجتمع تنفيذا لحكم قضائي، أو هي جزاء ينطوي على ألم بالمحكوم عليه؛ لمخالفته نهي القانون وأمره، وقد عرفها الفقـه، بأنها إزهاق روح المحكوم عليه، وقد عرفها المشرع العراقي في قانون العقوبات رقم ١١١ لسنة ١٩٦٩م المعدل في المادة ٢٨٦ بأنها، شنق المحكوم حتى الموت، والشنق لا يمثل الوسيلة الوحيدة لتنفيذ حكم الإعدام في التشريع العراقي، وإنما هناك وسيلة أخرى، وهي الرمي بالرصاص، ولكنها تقتصر على العـسكريين الـذين خـانوا شـرف السلاح.

وهناك اتجاهات إجرائية لتنظيم عملية الإعدام، بعضها يقتصر على إشراف السلطة القضائية، وبعضها يعهد بالإشراف إلى قضاء مستقل يقوم بمهمة الإشراف، والاتجاه الثالث يعهد بالإعدام إلى لجنة مختلطة، وهذا النظام يعد أفضل الأنظمة، فهو يضمن سلامة الإشـراف على التنفيذ، وهذا ما نص عليه قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي في المادة ٢٨٨، وأطلق عليها اسم) هيئة التنفيذ)، وفيما يخص تشكيلها فقد بينت المادة أعلاه أنها تتشكل من أحد قضاة الجزاء، وأحد أعضاء الادعاء العام عند تيسر حضوره، ومندوب عن وزارة الداخلية، ومدير السجن، وطبيـب الـسجن، أو أي طبيب أخر تندبه وزارة الصحة، ومن خلال هذا النص يتضح أن القانون العراقي يتبنى النظام الثالـث من أنظمة الإشراف على التنفيذ، وتأسيساً على ما تقدم فإن عملية تعليق الجثث، والتمثيل بها يعد مخالفة قانونية صريحة لقانون العقوبات العراقي، فضلاً عن مخالفتها للإعلانات والمواثيق الدولية، فقد نص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في الجزء الثالث المادة السادسة على أن  الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون أن يحمى هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفا، ولا يجوز في البلدان التي لم تلغِ عقوبة الإعدام، أن يحكم بهذه العقوبة إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة وفقا للتشريع النافذ وقت ارتكاب الجريمة، ولا يجوز تطبيق هذه العقوبة إلا بمقتضى حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة، أما الإعلان  العالمي لحقوق الإنسان فقد نص في المواد (3-21) على ضمان الحقوق المدنية والسياسية كالحق في الحياة والحرية، والأمان، وغيرها.

والحقيقة أن موضوع تعليق الجثث له أبعاد قانونية، واجتماعية، ونفسية، ربما لا يتسع المجال لذكرها بشكل متكامل؛ لذا سيتم تناول تلك الجوانب في مقالات أخرى.

 

 

المصادر

  1. محمد نجيب حسني، شرح قانون العقوبات القسم العام، دار النهضة العربية، ط،٥ ،١٩٨٢.
  2. رؤوف عبيد، علمي الإجرام والعقاب، دار الفكر العربي، ،١٩٨١.
  3. مقابلات خاصة أجراها الكاتب مع من شهدوا الحادثة.