د. رائد عبيس
هل العراق بحاجة ملحة إلى دراسات معمقة في انثروبولوجيا المقابر الجماعية ؟ ولماذا؟ وكيف ؟
الإجابة على هذه الاسئلة يحتاج الى إدراك حقيقي لأهمية هذا المجال في بلد مثل العراق، وهو أحد البلدان الذي صنف على أنه بلد المقابر الجماعية، وحوادث الإبادات منذ بدايات الدولة العراقية الحديثة من عهد الملكية والى اليوم، بفعل ما خلفته الأنظمة السياسية، والجماعات الإرهابية. اذ يقرب اعداد المقابر الجماعية في العراق من 300 مقبرة جماعية، ولعلها أكثر مما هو معلن، فيما لو قورن بأعداد المفقودين والمغيبين والذي تزيد اعدادهم أكثر من نصف مليون انسان.
لهذا السبب نُجيب، بنعم، العراق بحاجة لهذا الدراسات المكثفة عن هذه المشكلة ؛ لأن الآثار الوخيمة التي تسببت بها هذه الجريمة تعد كارثية، لاسيما مع ظهور نتائجها عبر الزمن بين وقوع هذه الجرائم وصولاً الى آثارها المكتشفة بعد مرور نصف قرن.
أما الإجابة عن الكيفية، فهنا نريد أن نسخر الإمكانات الذاتية والموضوعية في تحديد منهجيات لهذه الكيفية، سواء على مستوى الإدراك المعرفي لقيمة هذا الموضوع، أو على مستوى تهيئة ادوات إجرائية فاعلة محلية أو دولية. وهنا نحتاج الى الاستعانة بتجارب الآخرين في هذا المجال، ممن درس هذه المشكلة في مجال البحوث الإنثروبولوجية لمجتمعاتها سواء في ألمانيا، أو الجزائر، أو راوندا وغواتيمالا.
فضلاً عن المنهجيات المساعدة والمضافة لهذا التخصص، مثل علم الإجتماع، وعلم النفس الجريمة، وعلم الإركولوجيا، والطب العدلي، والتحقيق الجنائي، او التحليل الجنائي، وعلم الكيمياء، وعلم التربة، وغيرها من العلوم التي تساعد على تفسير مشكلة المقابر الجماعية ووجود الرفاة مع الأرض، ومع ثقافة المجتمع واهتمامه، فتعد في واقع الحال مادة خام لأي بحث تحليلي أنثروبولوجي يكتشف نتائج حوادث المقابر الجماعية بأبعادها المختلفة، سواء كانت ببعدها الإجرامي الجنائي، او الجرم السياسي، او الاقتصادي، او العرقي، او الديني، او العنصري، او أي دافع آخر. فالدوافع كثيرة، والنتيجة واحدة، ونقصد بها مخلفاتها بصفة مقبرة جماعية، أو مدافن جماعية بقبر كبير. وهنا تأتي مهمة المراكز البحثية والعلمية في دراسة هذه الظاهرة.
موضوعية البحث الإنثروبولوجي للمقابر الجماعية :
ما يجب ان يتعامل به مع موضوع المقابر الجماعية في العراق وعلى أسس المنهج العلمي، هو المساحة البحثية والإهتمامية مع ما يشاركه من تخصصات مساعدة على استيضاح النتائج. وبما ان النتيجة هي المبتغى من وراء هذا الترابط المنهجي بين هذه المعارف بكون محدداته البحثية واحدة، وهي تحليل ظاهرة وجود المقابر الجماعية قبل التنفيذ وبعد التنفيذ وقبل الإكتشاف وبعد الإكتشاف، وقبل الفتح وبعد الفتح.
ولهذا يمكن لنا ان نُقسم هذه الموضوعية الى عدة ابعاد:
أولاً: الابعاد الإجتماعية
في دراسة هذه الجريمة (المقبرة الجماعية). من حيث دراسة علاقة المجتمع بها، ورمزيتها، وذكرياتها، ومحتوياتها، والعلم بها ام لا، مساحتها، خطورتها، المخاوف الاجتماعية من وجودها او كشفها او حتى الاعلان او الإخبار عنها، مشاركة المجتمع في وجودها او التسبب بها ام لا، طريقة الدفن، طريقة وجودها، زمن وجودها، اكتشافها، التعاطي الاجتماعي مع الاكتشاف بين كونها خبراً او حدثا اجراميا تم اكتشاف دلائله او كونها تمثل خطراً صحياً او بيئياً، وطبيعة هذه الجريمة من المستوى الاجتماعي، الآثار الاجتماعية لإعلانها أو التكتم عنها، علاقتها مع الناجين من هذه الجريمة… وهكذا.
ثانياً: الابعاد الجنائية
فهذا البعد له خصوصيته في التعامل مع المقابر الجماعية، بكونها تحتاج الى أدوات تحليل جنائي متطورة بالتقنيات والاساليب المنهجية، وضوابط ومعايير فنية دولية، تحفظ للرفاة أهميتها الزمنية وخاصيتها الكيميائية بين عوامل التربة، والرطوبة، والعوامل الفيزيائية المؤثرة على القيمة المادية، والاعتبارية للرفاة وبقاياها المنفردة او البقايا المختلطة. فضلاً عن القرائن المادية، مثل : ادوات الضحية الخاصة، اشياءه، نقوده، خاتم، بقايا ملابس وغيرها. مع تحليل طبيعة الموت الذي تعرض له الضحايا في قبورهم الجماعية، بين دفنهم وهم أحياء، أو اعطائهم السم، او بالتصويب بالرصاص الحي، او بالتفجير، او بالطعن وما شاكل ذلك، الذي يتبين بعد تحليل الرفاة وملاحظة علامات الموت المتحقق عليها واسبابه. وهذا كله يستلزم تهيئة معدات التحليل الجنائي، وكذلك الطب الشرعي او العدلي من أخذ عينات من اهل الضحايا، فيما لو وجد لهم اهالي لأخذ العينات منهم؟! لأجراء فحص D.N.A الحامض النووي. وتنظيم قوائم بالضحايا واعمارهم واجناسهم وهوياتهم وتاريخ المقبرة، والبحث عن الجناة من خلال المعطيات التي يدلون بها أهليهم وشهاداتهم عن عمليات الاعتقال، والشهود على عمليات التنفيذ، والناجين ان كان هناك من ناجين، وهذا هو الواجب الذي تضطلع به الدولة اتجاه الضحايا واهليهم وان كان يلقي بتكاليف مالية عليها ويزيد من اعباء تكلفة التنقيب وفتح هذه المقابر واشغال الجانب الحكومي واجهزته الادارية والاستعانة بالخبراء الخارجيين، او اشراك المنظمات الدولية للمساعدة. وما تأسست مديرية المقابر الجماعية إلا بناءً على هذه التبعات البعيدة المدى لجرائم الأنظمة السياسية في العراق، واكثرها ضرراً هي جرائم نظام حزب البعث الصدامي.
كما ان التحليل الجنائي، يثبت طبيعة هذه الجريمة، بين كونها جرائم حدثت بفعل ممنهج من قبل السلطة خارج سلطة القضاء وبإجراءات قتل عمدي متعسف. او انها جاءت بقرار قضائي استوجب بها الدفن بهذه الطريقة كما يحدث في زمن الكوارث الطبيعية أو غيرها.
وهذا ما يحتاج الى مصاحبة كبيرة وواسعة بين الجهد الإداري في الكشف، والتنقيب، والتحقيق، والفحوصات، والفتح، والإغلاق، وبين الدراسات الإنثروبولوجية لكل هذه التداعيات وغيرها مما تسببت به المقابر الجماعية من أذى على العراقيين منذ وجودها وحتى اغلاقها وما بعد الأغلاق الذي يستلزم مسؤوليات جديدة من السلطات، وهو تعويض اهالي الضحايا، وجبر ضررهم بما يتلائم مع أذاهم ومصيبتهم وعدالة القانون مع قياس فداحة الجريمة وجسامتها.
ثالثاً: البعد المعرفي
لنتائج التحليل الإنثروبولوجي في المقابر الجماعية فيمكن أن نعدها ذا اهمية بالغة بكونها تقدم خلاصة لما تقدم من أبعاد تكاملية. يبدأ من توثيق حيثيات مثل هذا النوع من الجرائم سواء أخذت عنوان ابادة جماعية، أو جريمة حرب أو جريمة ضد الانسانية او جريمة جنائية بحق جماعة من المجتمع. كما لها أهمية في تصحيح سجلات المفقودين او المغيبين، واعادة عملية توثيق دقيقة لها مع ما يتحصل من ادلة عينية، ومن ثم يقوم بدراسة هذه المعطيات، وتحليلها، واستخلاص النتائج، وتقديم الحلول لكل التحديات التي تواجهها المجتمعات، في مثل هذه الحوادث والظواهر جراء الحروب الأهلية، او الإبادات الجماعية التي تقوم بها الانظمة والجماعات، وتكتشف اهم المنهجيات التي تساعد على تسهيل جهود الفرق البحثية او التنقيبية في الوصول الى افضل النتائج.
رابعاً: البعد القانوني
يمكن ان نصل بالبعد القانوني الى حقائق جنائية، تمكننا من المطالبة بمعاقبة الجناة، بكون ما تم التوصل اليه من أدلة وتحقيقات تثبت هوية الفاعل، وتنسب هذه الجرائم لمرتكبيها والمسبب بها، والمساهم التبعي فيها، ومن ساعد على اخفاء هذه الجريمة او تكتم عنها والذي يمكن عدها جريمة مضاعفة يعاقب عليها القانون الى جانب الفاعل. ولعل هذه النتائج تدفع بالمشرع العراقي، او القانوني الى اقتراح تشريعات قانونية تنصف الضحايا وذويهم. وتلاحق الجناة وتشدد عليهم العقوبات بحسب فداحة الجريمة وجسامتها وطول مدتها او قصرها، وتشريع قوانين لحماية المقابر الجماعية من العبث، والنبش العشوائي، والتجاوز على مواقعها. وبهذه الحدود يتعضد البحث القانوني بنتائج الإنثروبولوجيا، فيقدم افضل القوانين وارصنها في الحد من هذه الجرائم عبر جزاءات عقابية قاسية، وكذلك تشريع وتنشيط القوانين الضامنة لحقوق الإنسان والكافلة لسلامته.
لذلك ولأجله ندعو الباحثين والمختصين في الجامعات العراقية، ومراكزها البحثية الى تعزيز البحث الأنثروبولوجي للجريمة في العراق، لا سيما المقابر الجماعية على مستوى الدراسات القانونية والانثروبولوجية، لتعزيز الإشكاليات المتحققة منها بإجابات علمية بما يُسهم في كشف الحقيقة وبيانها.