أ.د. حسين الزيادي
تعرضت النخبة المميزة من كفاءات العراق إلى محنة حقيقية إبان حكم البعث، فقد تعرض أساتذة الجامعات العراقية، ورجالات العلم والثقافة والفنون إلى الاضطهاد والتهميش، وربما التغييب في بعض الأحيان، وهو أمر طبيعي عندما يسود حكم البندقية، وتكون لغة السلاح هي الغالبة والمهيمنة، ويكون الولاء للحزب الأوحد هو معيار الوطنية.
وفي هذا الخصوص وبتاريخ 29/11/1979، فوجئ الوسط الطبي العراقي بقرار رئاسي يتضمن إحالة ثمان وأربعين أستاذاً وأخصائياً من كليات طبية، ومؤسسات مدينة الطب على التقاعد، وهم وفي أوج عطائهم، وبدون سابق إنذار، وبغياب ذكر السبب، وكان هؤلاء يمثلون الصفوة في الأمانة، والإخلاص، والمثابرة، والنتاج العلمي بحسب تقييم كلياتهم، ومؤسساتهم العلمية، الأمر الذي أحدث تساؤلات كبيرة وضجة على المستوى العالمي؛ لأن هؤلاء النخبة كانوا من أكفأ أطباء العالم، وإحالتهم على التقاعد الإجباري يمثل انتهاكاً دستورياً وقانونياً، ومخالفة للعهود والمواثيق، والإعلانات الدولية، وفي ضوء ذلك كتبت صحيفتان بريطانيتان مقالين انتقاديين أحدهما بعنوان: مجزرة مدينة الطب (Massacre of Medical city) ، والأخرى بعنوان: (العراق: ثمن الحريةIraq: The Price of Freedom )، وكان الأول في قائمة المحالين الدكتور فرحان باقر الذي يعد أحد عمالقة الطب على المستوى العالمي، والذي علق فيما بعد قائلاً: إن اختيار اسمي وأنا على رأس عملي ومسؤوليتي في العلاج الطبي لرؤساء النظام الحاكم في العراق، له مغزاه ومعناه.
نتج عن هذا العمل الإجرامي فراغ هائل في الكادر التعليمي الطبي، بقيت آثاره على المدى البعيد، وقد هاجر كثير من الأطباء المحالين على التقاعد إلى خارج العراق في مثال واضح لما يسمى بهجرة الكفاءات، فاستقبلتهم الدول بالأحضان، ومن بينهم الأستاذ فرحان باقر الذي اضطر إلى مغادرة بلده مهاجرا إلى الولايات المتحدة فتسابقت الجامعات العالمية لكسب رضاه حتى استطاعت كلية مونت كلير في كاليفورنيا من جذبه إليها؛ ليتسلم الطب الباطني في مستشفاها عام 1987، ثم عمل تدريسيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عيادته الخاصة، حتى دعته دولة الإمارات العربية مكرماً معززاً، لتسنم مركز إداري مرموق في مؤسساتها الطبية.
بعد أن استولى البعث على السلطة في العراق، وتولى البكر رئاسة البلاد طلب من الدكتور فرحان باقر أن يكون الطبيب الخاص للقصر الجمهوري، وعرض عليه مغريات كبيرة، ومن ضمنها تجهيز دار قريبة منه، لكن الدكتور اعتذر؛ معللاً ذلك بالتزامه بالتعليم الطبي، ومسؤولياته المهنية، ولكنه أبدى استعداده للحضور عند الحاجة، وعند إزاحة البكر عن الحكم كانت رغبته أن يبقى محتفظاً بفريقه الطبي، وفي زيارة الفريق الطبي للبكر برئاسة الدكتور رياض إبراهيم وزير الصحة في حينه، اقترحوا إجراء دراسة إشعاعية خاصة له ، وطلب البكر أن يقوم الفريق العراقي بذلك، فضحك الجميع، وأخبروه بأنهم أُحيلوا على التقاعد، فأخذته الدهشة والعجب، وضرب يداً بأخرى قائلاً: (والله إنه لتخريب … إنه التخريب بعينه) .
ليس من السهولة بمكان تشخيص أسباب الإحالة على التقاعد؛ لأن ذلك لم يتم ذكره في متن كتاب الإحالة على التقاعد، وأن المحالين أنفسهم فُوجئوا بصدوره، لكن التحليل الموضوعي لهذا القرار التعسفي يجب أن لا يخرج عن الإطار العام لتصرفات السلطة خلال هذه المرحلة، وتحديداً خلال النصف الثاني من عام 1979، وهي مرحلة مهمة تم فيها عزل البكر، والاستلام الفعلي والرسمي للسلطة من قبل صدام ، إذ بدأت هذه المرحلة بمجزرة قاعة الخلد بتاريخ 22 / 7 /1979، وتخلص صدام على إثرها من معظم الذين عارضوا صعوده إلى السلطة، وممن كانت لهم علاقة بالبكر، ومن هؤلاء السكرتير الأسبق لأحمد حسن البكر هو محيي عبد الحسين مشهدي؛ لذا لا عجب أن يتخلص صدام من أي شخصية كانت على تماس مع البكر، ومن هؤلاء الأطباء الذين كان يستعين بهم البكر.
من جهة أخرى كانت مرحلة الإحالة على التقاعد تمتاز بانعدام الثقة، وكانت العقوبة تنال الآخرين على التهمة والظن، فضلاً عن كثرة الوشاة الذين زرعتهم السلطة في كل مفاصل الدولة، وهو أمر أكده الدكتور فرحان باقر عندما سأل عن سبب الإحالة على التقاعد فقال: (وشاية ربما سربها البعض إلى الرئيس صدام حسين دفعته إلى اتخاذ هذا القرار) ولاسيما أن للدكتور باقر علاقات واسعة بمختلف الشخصيات، وفضلاً عن علاقته بالبكر، واطلاعه على بعض أسرار الحكم، فقد ذكر في مذكراته أنه قد عالج السيد محسن الحكيم ، ومدير الأمن السابق ناظم كزار صاحب عملية الاغتيال المعروفة عام 1973، ولاشك أن التعامل مع هذه الشخصيات كان يثير حفيظة النظام ، ومن الأمور المهمة التي تلفت الانتباه أن الدكتور فرحان باقر ذكر في كتابه أن صدام أخبره أن: منصب البكر اسمي وشكلي لمرحلة معينة.
عموما امتازت مرحلة الإحالة على التقاعد بحالة من انعدام الثقة بين اطراف الحكومة، والرغبة في الاستحواذ الكامل للسلطة من قبل صدام، والتخلص من أي شخصية ربما تشكل خطراً على السلطة، ولو بنسبة ضئيلة، والاستماع لأي وشاية، وما يعزز ذلك اعتقال الدكتور هادي سعيد السباك وهو ضمن المجموعة المذكورة التي أحيلت على التقاعد، وحكم عليه بالسجن، وأودع في قسم الأحكام الخاصة في سجن (أبو غريب)، إذ عمل في الوحدة الطبية، ثم أُطلق سراحه بعد سنتين ونصف، وعاد لممارسة مهنته في عيادته الكائنة بمنطقة السنك قبيل مغادرته العراق.
من الناحية القانونية فإن هذا الفعل يتعارض مع الباب الثاني من الدستور العراقي 1970 الخاص بالأسس الاجتماعية والاقتصادية الذي يفترض أن يكون الضابطة التي توجه عمل السلطة، إذ نصت المادة الثانية والثلاثون على: أن العمل حق تكفل الدولة توفيره لكل مواطن قادر عليه، وتكفل الدولة تحسين ظروف العمل، ورفع مستوى العيش، والخبرة، والثقافة لجميع المواطنين العاملين.
وأن إحالة الكفاءات والنخب العراقية على التقاعد الإجباري يعد انتهاكاً لمبادئ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي نصت في المادة التاسعة على أن لكل فرد حقا في الحرية، وفي الأمان على شخصه، ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون، أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقد نصت المادة (23) منه أن لكلِّ شخص حق العمل، وحرِّية اختيار عمله، وحقه في شروط عمل عادلة ومُرضية، وفي الحماية من البطالة.
التحصيلات العلمية والشهادات الحاصل عليها الدكتور فرحان باقر:
1- الماجستير – جامعة جورج تاون، واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية – 1954
2- شهادة الزمالة من كلية أطباء الصدر – الكلية الأمريكية لأطباء الصدر، الولايات المتحدة الأمريكية – 1956
3- شهادة الزمالة في الكلية الملكية الطبية في أدنبرة، المملكة المتحدة – 1956
4- شهادة العضوية في الكلية الملكية الطبية في أدنبرة، المملكة المتحدة – 1956
5- شهادة العضوية في الكلية الأمريكية للأطباء – 1974
6- شهادة الزمالة في الكلية الأمريكية للأطباء – 1974
7- شهادة العضوية في الكلية الملكية للأطباء، لندن، المملكة المتحدة – 1979
8- شهادة الترخيص الفدرالي بممارسة الطب، كاليفورنيا، الولايات المتحدة – 1982
9-شهادة الترخيص بممارسة الطب، الأمارات العربية المتحدة – 1998
10- أول من أنشأ عيادة لمرضى السكر في العراق
11- أول من أسس مختبرا لأمراض الرئة في العراق
12-ترأس قسم الأمراض الباطنية في كلية الطب في العراق
13-رئيسا أو عضوا في لجنة منح الدبلوم في الطب الباطني في العراق
المصادر التي اعتمد عليها كاتب المقال
فرحان باقر، حكيم الحكماء من قاسم إلى صدام، دار المدى، دمشق، 2008
فرحان باقر، تاريخ الطب المعاصر في العراق ،2011
وكالة أنباء النخيل كتابات في الميزان مقابلة مع فرحان باقرhttps://www.kitabat.info/print.php?id=15044