أ.م.د رائد عبيس
للذاكرة الأرشيفية والتوثيقة أهمية كبيرة، لا تقدرها سوى الشعوب الحية التي لديها قدرة الاستفادة من ذاكرتها المكتوبة، أو الشفاهية. وبما أن ذاكرة التاريخ البعيدة والقريبة والراهنة تشكل حيزاً كبيراً في طبيعة الأحداث الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها، فهذا يعني أن التغلب عليها، أو توظيفها يشكل أحد التحديات، أو تكييف توظيفها، لصالح هدف معين تجاه المجتمعات.
المجتمع العراقي هو أحد هذه المجتمعات الذي يملك ذاكرة مليئة بأحداث تاريخية نوعية بالغة الأهمية. والذي عليه أن يوظفها ايجابيا من حيث أهمية أبعادها التاريخية، والاجتماعية؛ لمستقبل أفضل.
فالذاكرة بالمعنى المراد قد تكون مفهوماً غير واضح القصدية للوهلة الأولى، فله مصاديق ودلالات، مثل: كونها ذاكرة حفظ فقط، أو كونها مخزن للوثائق، أو قد تعني الذاكرة البشرية الطبيعية، أو الصناعية، أو الذاكرة الإلكترونية، وغيرها من الدلالات الوظيفية لمفهوم الذاكرة. وما يعنينا في هذا المقال هو الدلالة الإجتماعية لمفهوم الذاكرة المقرونة مع الذاكرة التاريخية. وعبر هذه العلاقة يحدث عامل التوظيف الايجابي والسلبي للذاكرة الاجتماعية تجاه طبيعة الأحداث التاريخية. وهنا يكون تعريف الذاكرة المجتمعية: هي مجموع الذكريات المتداولة بشكل إرادي، أو لا إرادي لطبيعة الأحداث التاريخية القديمة والحديثة، واسترجاعها بما يشكل تلقائية في التمثيل الهوياتي للفرد والجماعة، مختزلة بتلك المعرفة والإحساس والعاطفة تجاه الأحداث.
وبين هذه المحطات نقسم الذاكرة المجتمعية من حيث ما يغلب على تشكيل هوية الفرد تجاه الجماعة، أو هوية الجماعة تجاه الفرد على أنواع عديدة، مثل: هوية المركز، وهوية الأطراف (المهمشون)، وهذه الذاكرة اشتغلت عليها نظرية المركز والأطراف فيما يخص الهامشية الاجتماعية، والشعور بالدونية، والتعالي الطبقي، وغيرها. وهذه موجودة في ثقافة المجتمع العراقي في التعامل بين ابن الريف وابن المدينة، أو ابن العاصمة والمحافظات وهكذا. فأغالب المجتمعات، ومنها المجتمع العراقي الذي يتعامل مع الأحداث التاريخية بنوع آخر من أنواع الذاكرة، هو الذاكرة المبتورة؛ لأنه يعتمد فيها على المتداول قصصياً وشعبياً، وتحولها فيما بعد إلى أسطورة. فلم يسعف معرفته بالقراءة والتحليل، والتدقيق، والمراجعة للمكتوب، أو توثيق الشفهي منه وتدوينه، حتى تكتمل لديه قصة الأحداث، وتكون لديه ذاكرة متكاملة، بعيداً عن الخيال، والأسطورية، والبطولات الزائفة، وغيرها. وهذا ما دُوِّن عن شخصية صدام حسين، مثلاً: شعراً وأدباً، وحتى دراسات وبحوث. فما يعزز الذاكرة المجتمعية هي الذاكرة الفردية، كم قصة، وحادثة، وسيرة ذاتية، وبطولات فردية تحولات إلى أدبيات جماعية، بل وتحولت ذاكرتها إلى ذاكرة مركزية في وجدان الشعوب والمجتمعات، مثل: حادثة كربلاء، وقصة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) التي تعد ذاكرة مشتركة ومركزية عند عامة الشيعة في العالم.
وهناك نوع آخر من الذاكرة نصطلح عليه الذاكرة المصطنعة؛ فهي ذاكرة معدة عبر برامج مقصودة؛ لتكون هامشا في التاريخ، وحدثاً مزيفاً، القصد منه تزييف حقائق معينة؛ لطغيانها على الأحداث الأصلية، وهذا ما يحدث عبر بروباغندا معينة؛ لتعزيز أفكار أيديولوجية، وتمرير أكاذيب بهدف قلب الحقائق، وإحداث اضطراب في وعي العامة، وقابليتهم في تلقي الحقائق والأحداث، كما فعلت ذلك الجماعات التكفيرية في العراق، وداعش في أثناء احتلالها لبعض المدن العراقية في عام 2014، وخداعها للأهالي بأنهم يمثلون الشريعة والدين، وأنهم يقصدون حمايتهم من الظلم الطائفي الذين تعرضوا له من قبل حكومة الشيعة! وهذه الأكذوبة ومخلفاتها تم مواجهتها بكل حكمة ووعي ومسؤولية بفتوة الجهاد الكفائي التي أطلقها السيد السيستاني (رعاه الله)؛ مستفيدا من التجارب القاسية التي خلفتها الجماعات التكفيرية ضد الشعب العراقي بعد 2003 من تفجيرات، وعمليات انتحارية، وقتل على الهوية بحق العراقيين من الشيعة وغيرهم. فهذه الفتوى المباركة جاءت في مرحلة مفصلية من لحظة الاعتبار بالتاريخ، والاستفادة من التجارب والمواجهة بقوة، حتى لا يعيد تاريخ التطرف والإرهاب نفسه مرتين. وعلينا على الدوام استثمار هذا الذاكرة النشطة تجاه هكذا أحداث، حتى لا يقع المجتمع في غفلة من أمره.
فطبيعة الذاكرة المجتمعية العراقية تنقسم بطريقة غير واعية بين هذه الأنواع من الذاكرة، محدثة بذلك فوضى في تقييم الأحداث، وكشف الحقائق، أو تلقيها، وبالنتيجة يظهر ذلك سلبا على:
- كيفية قراءة الأحداث وتحليلها.
- الاستفادة من التجارب القاسية التي مرت عليه.
- غياب المنهجية العلمية والمعرفية التي تدرس أرشيف الذاكرة بطريقة واعية تساعد على كشف الحقائق.
وهذا التشخيص يجب أن يأخذ حيزه من الإهتمام العام في أن يكون جزءاً من برامج عمل توثيقية تسهم في توعية الطلبة، والأساتذة، وأهل المعرفة، والمجتمع في الالتفات إلى أهمية عملية التوثيق، وتنشيط ذاكرة المجتمع؛ ليشخصوا بواقعية الأحداث والتجارب القاسية وطبيعتها، حتى لا يكرروا الأخطاء اتجاهها ويعتبروا بماضيهم. وهذا ما كان في اهتمام وزارة التعليم العالي مؤخرا في أدخال جرائم حزب البعث في منهاج طلبة المرحلة الثانية من التعليم الجامعي.
نجد من الضرورة التاريخية أن نُوسع مشروع تعزيز الذاكرة، وأن يكشف عنه بأبعادها بالإيجابية والسلبية، ونقصد بذلك بقدر ما نذكر بالهزيمة يجب أن نُذكر بالانتصار واستثماره وديمومته، فتحديد مثلاً يوم 10/12/2018 يوماً وطنياً للنصر على داعش؛ ليكون جزءاً من انعاش الذاكرة الوطنية بمخاطر الجماعات التكفيرية والإرهاب، وهذا مهم بحد ذاته وموضوعه، ولكن إدامة هذه الذكرى شأن الوزارات الأخرى، مثل: التعليم، والثقافة، والتربية في توعية الأجيال لهذه المناسبات، عبر برامج مختلفة مثل: الرسم، النحت، كتابة الشعر بهذه المناسبات، المسابقات البحثية والتوثيقية، كتابة الرسائل والأطاريح، استعمال الفن الرمزي، والإلكتروني وغيرها.
وفي الختام نقول: إن المسؤولية الوطنية تقع على عاتق أصحاب المعرفة، والمراكز البحثية والتوثيقية، وعلى عاتق الجامعات، ومراكزها العلمية، في المساهمة بقوة على تعزيز الذاكرة المجتمعية العراقية الإيجابية المستفادة من أحداث التاريخ، وذاكرة القسوة التي مرت على المجتمع؛ لنقل الحقيقة من ذاكرة السلطة إلى ذاكرة المجتمع، عسى أن نحمي أنفسنا وأجيالنا من تجارب الانتقام التاريخي المسند إلى ذاكرة تاريخية مشوهة.
* هذه المحاضرة ألقيت على طلبة المرحلة الثانية – كلية العلوم – جامعة الكوفة. في يوم الاثنين الموافق 11/11/2024.