banarlogo

صحيفة الأعمال الأمنية من تدابير الملاحقة إلى الأحكام قراءة في الوثائق البعثية  1

د. رائد عبيس
في وثائق المؤسسات الأمنية البعثية أبعاد متعددة، تمنحك تصور عميق عن الوجه الآخر للدولة البعثية، الدولة البوليسية التي تَكشفت من خلال وثائقها، فمن خلال الوثيقة يمكن أن تعرف الدولة، وشكلها، وطبيعتها، وقوتها، وضعفها، وسياستها الأمنية والعسكرية، ونهجها السياسي. فالدولة الظاهرة سياستها للعامة من الناس، هي غير الدولة المخفية في وثائقها السرية، والسرية للغاية، والمحظورة.
فالوجه الآخر للدولة والحكومات البعثية، تكشفه الوثائق، والوثائق الخاصة جداً، ولو كان متأخراً، كما هو الحال بعد سقوط هذا النظام وزواله.
فنحنُ اليوم أمام قراءة جديدة لتاريخ الحكم البعثي في العراق- طيلة عقود من السيطرة على مقاليد السلطة، واحتكارها بنهج ديكتاتوري مستبد – من خلال الوثائق الأمنية.
إذ اعتادت الأجهزة الأمنية البعثية، بكل دوائرها على اتباع نهج تكامل المعلومات، وتقاطعها بشكل جيد، مثل الوثيقة الأمنية، لكل شخص ملاحق أمنياً، وحزبياً، وعسكرياً، ووظيفياً.
وتعد الوثيقة الصادرة من مديرية الأمن العامة، التابعة لوزارة الداخلية العراقية، التي تحمل صفة السرية، والسرية للغاية، هي الحلقة الأوسط بين الأمن الحزبي، وبين المحاكم، وهي في الغالب من تنفذ حملات الملاحقة وتدابير المراقبة لكل مشتبه به، أو متهم لحين أن يتم اعتقاله، والدفع به للمحاكم، وصدور الأحكام.
وقد لا يختلف الأمر كثيراً في إجراءات المؤسسات الأمنية البعثية، وسياق عملها الأمني بين مرحلة وأخرى، إلا في مستوى تسريع إجراءات المحاكمة، وإصدار الأحكام، والتنفيذ. هذا فيما لو كانت لكل معتقل (صحيفة أعمال أمنية) مسجل بها كل معلومات عنه، منذ أن فتحت له صحيفة أعمال لمراقبته وحتى الاعتقال. أما الضحايا الذين لم يكن لهم أي صحيفة أعمال، فقد كانوا عرضة لكل حادث عرضي، أو طارئ، أو إهمال متعمد، أو فقدان له ولصحيفته. وهذا ما جعل الآلاف من الضحايا لم يعرف لهم مصير.
فكشف تاريخ الوثيقة الأمنية و (صحيفة الأعمال الأمنية) يوفر كثيراً من الجهد على الضحايا وذويهم في معرفة مصير أبنائهم. مثل الوثيقة المرقمة (32/م4) الصادرة 8/5/1983، تحمل صفة (سري) معنونة إلى (مديرية /45). بموضوع معلومات، وتنص على ذكر أحد الضحايا (ج،ك،أ،س) بوصفه عميلاً! لأنه ينتمي إلى حزب الدعوة المقررة عمالته على وفق قرار مجلس قيادة الثورة، وصدور حكم الإعدام بحقه، شنقاً حتى الموت، ومصادرة أمواله المنقولة، وغير المنقولة، مع إرفاق صحيفة الأعمال، المسوغة لهذا الحكم.
بغض النظر عن قسوة مثل هذه الأحكام، ومدى مشروعيتها، نطرح الأسئلة الآتية:
 ما المقصود بصحيفة الأعمال؟ ومتى تقرر المؤسسات الأمنية أن تفتح صحيفة أعمال للأشخاص؟ وما أهميتها في إصدار الأحكام والتنفيذ؟ وما أهميتها في ما بعد التنفيذ؟.
ما المقصود بصحيفة الأعمال؟، هو سجل أمني يُفتح لكل شخص من عمر الثانوية، وحتى التقاعد، يذكر فيه موقفه من الحزب، والمعارضة، ونشاطه العام والخاص، وقد تستثمر المعلومات الواردة فيه مثل السجل الجنائي، والسيرة الحسنة، أو تقارير أمنية لصالح الشخص، أو ضده، بحسب ما يقصد من ذلك.
ومتى تقرر المؤسسات الأمنية والحزبية أن تفتح صحيفة أعمال للأشخاص؟، تقرر ذلك عندما يطلب منه الانتماء لحزب البعث بصفة مؤيد للحزب، أو يكون له موقف من الحزب معلن أو غير معلن، أو يكون الفرد ضمن عائلة عليها مؤشرات أمنية معينة، وتسمى (الإضبارة).
وما أهميتها في إصدار الأحكام والتنفيذ؟، مهمة جدا في إصدار الأحكام، والتعجيل بالمحاكمة، وسرعة التنفيذ بغض النظر عن طبيعة الحكم.
وما أهميتها في ما بعد التنفيذ؟، تكمن أهميتها لدى الحزب كأرشيف عن طبيعة الأحكام المتخذة بحق الأفراد، وكقاعدة بيانات، لمعرفة مواقف العوائل والأسر، وسوابقها مع حزب البعث، وطبيعة مواقفها إن كانت معادية، أو يعدها كذلك. وتعززت أهميتها بعد سقوط النظام، إذ تعرف الأهالي على ذويهم من خلال هذا السجل. وحتى خبراء معهد هوفر عندما أطلعوا على مثل هذه الوثائق دهشوا، وتسألوا، كيف للنظام أن يوثق كل ذلك دون خشية، وأغلبه بخط اليد؟
فصحيفة الأعمال الأمنية كان يسجل بها كل تحركات المطلوب ملاحقته، سواء في تنقله للسوق، أو زيارة الأقارب، أو زيارة الأصدقاء، أو حضور اجتماعات، أو السفر، أو زيارة العتبات المقدسة بالنسبة للمتدينين، أو مساعدة العوائل الفقيرة، أو التنقل في السكن، أو شراء حاجيات، أو الاختلاط مع المشبوهين والمطلوبين، أو الصلاة في الجامع، أو التجمع مع الناس، أو عدم التعاون مع الأجهزة الأمنية والحزبية إن طلب منه لاختباره، مثل حضور المسيرات الحزبية وغيرها. أو التخلف عن الخدمة العسكرية أو الجيش الشعبي. أو اللقاء بالمتدينين ورجال الدين، أو التردد على بيوت العلماء، أو وكلائهم. أو موقف أقاربه من الحزب، أهل الزوج أو الزوجة، وطلبة المدارس في الثانويات والجامعة، أما إذا كان لدى المطلوب ملاحقته أحد معدوم أو معتقل من أهله، وأقاربه، أو أصدقائه، فالملاحقة تكون حتمية، كل ذلك يدخل في سجل صحيفة الأعمال الأمنية، ويدخل في نطاق تدابير الملاحقة، مثل مراقبة البيت، مراقبة الهاتف، المراقبة في الوظيفة أو العمل، أو الاستدعاء المستمر لمقرات الأمن والحزب، وأما أن تكون هذه التحركات معززة لقناعة الأجهزة الأمنية لاعتقال الأشخاص على أساسها وتسليمهم للمحاكم. أو يبقون تحت المراقبة المكثفة، وكثير من الضحايا لم تكن صحيفة أعمالهم تشير إلى شيء خطر وفقاً لحسابات المؤسسات الأمنية والحزبية البعثية، ولكن راحوا ضحايا؛ نتيجة طوارئ أمنية، مثل: حملات المداهمة، أو الاعتقالات العشوائية. منتهك حزب البعث بذلك دستور الدولة المؤقت لسنة 1970 ولا سيما في المادتين 23 و26.
وقد تكون واحد من التحركات المتقدم ذكرها، مع تهمة الانتماء لحزب محظور مثل: حزب الدعوة الذي وصف بالعمالة، أو الحزب الشيوعي، مع سبق ترصد وقصد من قبل رجال الأمن والحزب، كفيلة بأن توصل الشخص إلى الإعدام، ومصادرة الأملاك المنقولة وغير المنقولة، وملاحقة الأقارب، والعائلة، والأسرة، ويدخلون في سجل أعداء الحزب، والقائد، والثورة!
فصحيفة الأعمال الأمنية، توضح طبيعة النظام القمعية، والبيروقراطية المتشددة، وبوليسية الدولة المتطرفة أمنياً وإجرائياً، وغياب الرحمة بحق أبناء الوطن، وهي تتربص بهم عبر سجلاتها وصحيفة أعمالها الأمنية، ومراقبتها المفرطة. وقد وصفت – الزميلة السابقة في معهد هوفر بليدز Blaydes والأستاذة المشاركة في العلوم السياسية جامعة ستانفور – ذلك في كتابها (حالة القمع: العراق في عهد صدام حسين،2018). أرشيف حزب البعث بقولها: (غطى الأرشيف مواضيع الحكم اليومية، بما في ذلك أنشطة التعبئة لحزب البعث، ومراقبة التفصيلات السياسية لطلاب الثانوية).
ينظر: (https://news.stanford.edu/stories/2018/03/baath-party-archives-reveal-brutality-saddam-husseins-rule)
وفي أدناه وثائق تبين حقيقة طبيعة الملاحقات الأمنية المستندة إلى صحفية أعمال كل مطارد ومعتقل، لحين أن يتم إلقاء القبض على الشخص وتقديمه للمحاكمة.