banarlogo

انتفاضة صَفر الخالدة..شهداء على طريق الأربعين الجزء الثاني

 أ.د. حسين الزيادي
    قامت سلطات البعث بتطويق خان النخيلة، واعتقال الآلاف من المشتركين في انتفاضة صَفر، وقد اشترك في تلك العمليات عناصـر الأمن، والمخابرات مدعومة بالجيش، وقد روّجت سلطة البعث خبراً مفاده أن المتظاهرين عبارة عن متمردين مدعومين من دول أجنبية؛ بهدف تشويه صورتهم أمام الشعب؛ ولإعطاء ذريعة للجيش، والمؤسسات الأمنية لضربهم، إذ نشرت صحيفتي الثورة والجمهورية الصادرتين في التاسع من شباط 1977 خبراً مفاده: أن أجهزة الأمن والمخابرات قد اكتشفت مؤامرة يقف وراءها النظام السوري استهدفت تفجير مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم زيارة الأربعين .
  وأصدر مجلس قيادة الثورة في الثالث عشر، والرابع عشر من شباط 1977 القرارين المرقمين (166) و (173) ، واللذينِ تم بموجبهما تشكيل هيأة تحقيقية خاصـة، أطلـق عــليها (الهيأة التحقيقية الخاصة في سجن رقم واحد) في معسكر الرشيد ببغداد؛ وذلك لغرض التحقيق في أحداث الشغب في محافظتي النجف وكربلاء، وجاء في أوراق الهيأة التحقيقية المذكورة، وفي ذلك الوقت كان قد بلغ عدد المعتقلين في سجن رقم واحد (2502) من معتقلين، أطلق سراح (2381) معتقلاً، منهم ما بين يومي التاسع من شباط والعشرين من الشهر نفسه ، فبقي رهن الاعتقال (121) معتقلاً، وفي ذلك الوقت اصدرت الهيأة التحقيقية أمراً بالقبض على (314) شخصاً آخر، وتم إلقاء القبض على (162) منهم بحسب ما جاء في تقرير اللجنة المشرفة على التحقيق، فبذلك أصبح مجموع المعتقلين في سجن رقم واحد (283) معتقلاً، ولم يرد في تقرير اللجنة المشرفة على التحقيق أعداد المعتقلين في السجون الأخرى.
           تعرض المعتقلين إلى أساليب التعذيب الوحشية، والحرب النفسية في أثناء التحقيق، وقد بلغ الأمر أن تم إعدام أحد المعتقلين أمام رفاقه، من دون محاكمة كوسيلة للضغط النفسي، ولإجبار المعتقلين الآخرين على الإدلاء بمعلومات جديدة، بحسب ما أشار إليه تقرير (عزت مصطفى) رئيس اللجنة المشرفة على التحقيق، وفي السياق نفسه فقد جاء في الفقرة ( و ) من البند الخامس من التقرير المذكور، وتحت عنوان ( الصعوبات التي رافقت التحقيق ) ما نصه: ( عدم استيعاب سجن رقم (1) للمعتقلين، وصعوبة السيطرة عليهم، وتنظيمهم بالشكل الذي يساعد الهيأة التحقيقية في عملها، إضافة إلى صعوبة تأدية الخدمات للمعتقلين، وتوفير الطعام، والأغطية الكافية لهم، حيث قضى جميعهم مدة موقوفيتهم بدون أغطية تقيهم من برودة الجو) على حد وصف التقرير المذكور، وقد حاولت وسائل الإعلام الرسمية أن تُظهر الحكومة، والهيأة التحقيقية بالمظهر المراعي لحقوق الإنسان والمهتم، بتوفير الاحتياجات الإنسانية للمعتقلين، إذ نشـرت مجلة (ألف باء)، وهي مجلة ناطقة باسم السلطة، في أحد تحقيقاتها الصحفية مع بعض المعتقلين بهذا الخصــوص ما نصه: ( ونحن ندخل غرفة التوقيف كانت أكياس البرتقال موضوعة على نافذة السجن، وأمام السجناء صحون من حساء الدجاج .. لكن الوثائق المذكورة أكدت بصراحة وجود عمليات تعذيب، وتجويع، واستخدام أسلوب العنف، وعدم مراعاة حقوق الإنسان في أثناء عملية التحقيق، وهو أمر يشير إلى أن السجون، ومراكز الاحتجاز كانت بعيدة كل البعد عن المعايير الدولية الخاصة بالتعامل مع السجناء والموقوفين، فجريمة التعذيب من الجرائم المحرمة على الصعيد الدولي، بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فضلاً عن تعارضها مع المعايير الدولية المتعلقة بمسألة الاحتجاز، والصادرة عن الأمم المتحدة – المفوضية السامية لحقوق الإنسان، والتي تنص على: عدم جواز إخضاع أي شخص يتعرض لأي شكل من أشكال الاحتجاز، أو السجن؛ للتعذيب، أو للمعاملة أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية أو المهينة ، كما أن تلك الأفعال تتنافى مع المبادئ، والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء لعام 1957، والمبادئ الخاصة بحماية السجناء لعام 1988، ومدونة السلوك لمأموري الضبط القضائي 1979، والمبادئ الأساسية لاستعمال القوة والأسلحة النارية لعام 1990، وجميع المعاهدات والاتفاقيات ذات الصلة.
    أصدر مجلس قيادة الثورة في الثالث والعشرين من شباط 1977 قراراً يقضي بتشكيل محكمة خاصة تكونت من ثلاثة أعضاء من القيادة القطرية لحزب البعث ، وهم عزت مصطفى، بوصفه رئيساً للمحكمة، وعضوية فليح حسن الجاسم، وحسن علي؛ وذلك لمحاكمة المعتقلين المشاركين في الانتفاضة، أو ما أطلق عليه بـ ( المشتركين بحوادث الشغب الأخيرة ) ، وهذه المحكمة تفتقد لمبدأ الحيادية والاستقلالية ، فضلاً عن كون أعضاء اللجنة ليسوا من المختصين ، وهذا التصرف يُعد  مخالفة صريحة للمادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تنص على: (أن الناس جميعا سواء أمام القضاء، ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه، أو في حقوقه، والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون)، وقد أصدرت المحكمة أحاكمها في اليوم نفسه على (23) معتقلاً ، حكمت على ثمانية منـهم بالإعدام، فيما حكمت على خمسة عشر منهم بالسجن المؤبد، وأصدرت المحكمة كذلك حكماً بالإفراج عن (87) معتقلاً  ، وهو ما يعني أن مجموع من صدرت عليهم أحكام قد بلغ (110) معتقلين، وعدد من بقي رهن الاعتقال حتى العشرين من شباط 1977 كان (283) معتقلاً، بحسب ما جاء في تقرير (عزت مصطفى)، وهنا يمكننا أن نسجل بعض الملاحظات على مجريات التحقيق والمحاكمة ، وهي أن مدة التحقيق قد بلغت عشرة أيام منذ تاريخ تشكيل الهيأة التحقيقية في الرابع عشر من شباط 1977، حتى يوم تشكيل المحكمة، وإعلان الأحكام في الثالث والعشرين من الشهر نفسه ، وإذا ما علمنا أن المجموع الكلي لعدد المعتقلين قد بلغ (2502) من المعتقلين في السجن رقم واحد، بحسب ما ذكرته الوثائق الرسمية ، فلا بد هنا أن نسجل حقيقة أن تلك الأحكام الصادرة قد تم إعدادها مسبقاً، ومن خارج المحكمة ، وقد أيد هذه الحقيقة السيد محمد باقر الحكيم الذي تلقى نبأ الحكم عليه من دون أن يحضر لتلك المحكمة  ، إذ كما هو معروف لأي محكمة ، ينبغي عليها اتباع سلسلة من الإجراءات كالاستماع إلى إفادات المعتقلين، وشهادات الشهود، فليس من المعقول أن تصدر أي محكمة حكماً على (110) أشخاص في يوم واحد.
      كان اثنان من أعضاء المحكمة الخاصة بحوادث انتفاضة النجف 1977 ، وهما رئيسها (عزت مصطفى) والعضو (فليح حسن الجاسم) غير راضيين عن القرارت الصادرة عنها بحق المنتفضين ، وكانا يران بأنها جائرة ومجحفة ، إذ كانت علامات عدم الرضا تبدو عليهما في أثناء المحاكمة،  وهو ما تجسد في تصرفاتهما ، ففي الوقت الذي تقتضي فيه الأعراف القانونية بأن يقرأ رئيس المحكمة القرارات، أو الأحكام الصادرة عنها ، لكن ما حصل في هذه المحكمة عكس ذلك ، إذ كان العضو (حسن علي) هو الذي تولى قراءة الأحكام التي أصدرتها المحكمة، بينما كان رئيسها جالساً مطأطئاً رأسه ، في حين كان العضو (فليح حسن الجاسم) يعبث بشعر رأسه مولياً وجهه صوب أحد الجدران ، وهو ما أثار قيادة البعث، ولم يرق لها ذلك التصرف ، فأصدرت أمراً باعتقالهما بتهمة الاعتراض على قرارات المحكمة ، وبعد مرور شهر من الاعتقال، أصدر مجلس قيادة الثورة بحقهما القرار المرقم ( 349 ) في الثالث والعشرين من آذار 1977 القاضي بطردهما من القيادة القطرية لحزب البعث، وفصلهما من مناصبهما الرسمية  ، وقامت الأجهزة السرية باغتيال (فليح حسن الجاسم) بعد مدة قصيرة من فصله من الحزب.
إن أحداث انتفاضة صَفر في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بدءً من منع السلطات للشعائر الدينية، مروراً بالمضايقات التي قامت بها المؤسسات الدينية، فضلاً عن التحقيق من قبل أناس مرتبطين بالسلطة ، وأحكام الإعدام المعدة سلفاً ، علماً أن تلك الأحكام غير قابلة للطعن .
 إن حرية ممارسة الشعائر الدينية تتنوع بين الحماية الدولية الواردة في الاتفاقيات الدولية والإقليمية، والحماية الواردة في الدساتير الداخلية للدول، والتشريعات الجنائية، وقد وردت كثير من النصوص القانونية التي أكدت حماية حرية ممارسة الشعائر الدينية، ويأتي على رأس تلك المواثيق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أكد حرية ممارسة الشعائر الدينية سواء كان ذلك بصورة منفردة أم ضمن جماعة، إذ جاء في المادة (18) منه أن: لكل إنسان الحق في حرية التفكير، والضمير، والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته، أو عقيدته، وحرية الإعراب عنها بالتعليم، والممارسة، أو في إقامة الشعائر ومراعاتها، سواء كان ذلك سراً أم علانية.