ataba_head
banarlogo

انتفاضة صَفر الخالدة.. شُهداء على طريق الأربعين الجزء الأول

 أ.د. حسين الزيادي

 على الرغم من أن الطقوس والشعائر الدينية قد كفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن هيأة الأمم المتحدة عام 1948 بحسب المادة الثامنة عشر التي تنص على إن: لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في الإيمان بدين، أو بأي معتقد يختاره، وحرية إظهار دينه، أو معتقده عن طريق العبادة، وإقامة الشعائر ،  إلا أن سلطة البعث بدأت بتضييق الخناق على أصحاب المواكب، واعتقال أصحاب المجالس والخطباء، وكانت تستدعي رواديد القصائد الحسينية، وتجبرهم على مدح حزب البعث، وسلطة البعث من خلال قصائدهم، وإذا امتنعوا يتم اعتقالهم، أو اغتيالهم من قبل أجهزة الأمن، وهذا ما حدث مع الخطيب الشيخ عبد الزهرة الكعبي الذي اعتقلته السلطات مع عدد من الخطباء والقراء في مدينة كربلاء المقدسة؛ بسبب رفضهم مدح سلطة البعث في مجالسهم الحسينية، وقد اغتيل في السادس من حزيران 1974  .
      وأصدرت سلطات حزب البعث في أوائل شباط 1977 قراراً بمنع خروج المسيرات الراجلة من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، بوصف النجف مركزاً لتجمع الزائرين القادمين من المناطق الوسطى والجنوبية، وقد كان هذا القرار بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة، إذ قوبل هذا القرار بالرفض من قِبل الجماهير الذين تحدوا السلطات، وأصروا على الاستمرار في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنها شعيرة المشي صوب كربلاء المقدسة، على الرغم من أوامر المنع، وقد عَدّوا تلك الشعائر جزءاً لا يتجزأ من هويتهم الدينية، متخذين منها فرصة للتعبير عن رفض ما تعرضــــوا له مــن مظالم.
         عقد محافظ النجف (جاسم الركابي) في الثالث من شباط 1977 اجتماعاً على إثر ذلك الوضع المرتبك الذي ساد المدينة؛ بسبب رفض قرار منع خروج المسيرات، وقد دعا للاجتماع وجهاء المدينة ورؤساء المواكب، وأبلغ المجتمعين بقرار السلطة القاضي بمنع خروج المواكب العزائية، والمسيرات الراجلة إلى كربلاء المقدسة، الأمر الذي رفضه الحاضرون بشدة، فكان ذلك بمثابة التحدي العلني لقرار السلطة بحسب ما أشار إليه تقرير (عزت مصطفى)  رئيس اللجنة المشرفة على التحقيق في أحداث انتفاضة النجف 1977، و لم يكتفِ الحاضرون في الاجتماع برفضهم قرار المنع فقط، بل عمدوا إلى تأكيدهم للمحافظ بأن المسيرة ستخرج في اليوم التالي، وحددوا موعد انطلاقها في الساعة الحادية عشرة صباحاً، متحدين بذلك أوامر المنع.
         اجتمعت الجماهير الحسينية، فانطلق قسم منهم من شارع الإمام الصادق (عليه السلام)، وقسم انطلق من محلة العمارة، وقسم آخر انطلق من أحياء المدينة الشمالية والشرقية، وقد توجهوا جميعاً إلى الصحن الحيدري الشريف صباح يوم الجمعة الرابع من شباط 1977م، الموافق الخامس عشر من شهر صَفر 1397 هـ، وانطلقت الجماهير بعد زيارة ضريح الإمام علي (عليه السلام) طائفة شوارع المدينة مرددةً هتافات حسينية خاصة بالمناسبة.
          واصل المتظاهرون مسيرهم حتى وصلوا إلى خان الربع (خان المصلى) وهو من الأماكن المعدة لاستراحة زوار العتبات المقدسة، والمسافرين، ويبعد عن مدينة النجف الأشرف حوالي (15 كم)، وفي أثناء الليل قامت عناصر الأمن بمداهمة الخان محاولة إلقاء القبض على من فيه خلال الليل، إلا أن الإجراءات التي قام بها المتظاهرون قد جاءت بنتائج ايجابية، فقد تصدى لهم الحراس وأمطروا القوة المداهمة بالحجارة؛ مما أجبر تلك القوة على الهرب.
            في اليوم التالي خرجت المسيرة الجماهيرية من خان الربع باتجاه الطريق الرئيس الرابط بين مدينتي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، واستمرت الجماهير بالمسير إلى كربلاء المقدسة، مروراً بخان النص، وكانت تزداد عدداً كلما تقدمت، وقد قدرت المصادر أن أعداد المشاركين في المسيرة قد وصـــل إلى ما يــــقارب (200 – 250) ألف شخص، وصلت المسيرة إلى خان النص مساء يوم الخامس من شباط 1977م/ السادس عشر من صَفر 1397هـ، وأحكمت سيطرتها عليه، في وقت كان النظام قد كثّف رقابته على المسيرة، وكان ينوي القيام بهجوم مفاجئ، إلا أن قادة المسيرة كانوا على أهبة الاستعداد، وفي أعلى درجات اليقظة والحذر؛ لمواجهة أي تحرك من قِبل أجهزة السلطة، فنصبوا نقاط حراسة على باب الخان، وعلى سطحه، فضلاً عن نشر دوريات في داخله.
           مرت ساعات الليل بصعوبة على الزائرين، وفي الصباح عثر الزائرون على أحد عناصر الأمن المدسوسين بينهم، ولديه قائمة بأسمائهم، وأسماء من يمدهم بالغذاء، عندها قامت الجماهير الراجلة بتظاهرة منددة بسلطة البعث، وكان من بين الهتافات التي رددها المتظاهرون: (يا صدام شيل أيدك شعب النجف مايريدك) و (هلله هلله حسين وينه بالسلاح مطوقينه)، وقد طافت تلك المظاهرة أرجاء ناحية الحيدرية التي يقع فيها خان النص
         استمر المتظاهرون بالمسير صوب كربلاء المقدسة، فيما تعرض من بقي منهم في الخان للاعتقال من قِبل الأجهزة الأمنية التي طوقت الخان، واعتقلت من كان فيه، واستطاع المتظاهرون من إطلاق سراح المعتقلين؛ مما أدى إلى إطلاق النار على المتظاهرين، الأمر الذي أودى بحياة امرأة وصبي في الرابعة عشرة من عمره، ويدعى السيد عبد الأمير الميالي، فضلاً عن اصابة عدد آخر من الجرحى.
         وصلت أنباء الاشتباكات في خان النص إلى مدينة النجف الأشرف، وهو ما أحدث توتراً وسخطاً على سلطة البعث بين الناس، فخرجت على إثر ذلك مظاهرة نسوية حاشدة اتجهت إلى مبنى المحافظة، وأخذت تردد هتافات مناهضة للسلطة، وقد التحق الرجال بالمظاهرة النسوية، وهددوا بالخروج بمظاهرة عنيفة إذا لم تنتهِ أعمال العنف، وقد اضطرت السلطة على إثر هذا التهديد بالسماح لهم بالذهاب إلى خان النص.
   كان السيد محمد باقر الصدر لا يثق بتعهدات سلطة البعث؛ لذا كان متردداً في التدخل، إلا أنه وافق على إرسال وفد إلى المنتفضين، نتيجة إصــــرار المحافظ؛ لكي لا يفسر امتناعه عن التدخل بالقضية بأنه موقف معادٍ للسلطة، ومؤيد للانتفاضة، فضلاً عن رغبته في تخفيف ردة فعل سلطة البعث تجاه المنتفضين، إذ كان يعتقد أن سلطة البعث ستتخذ أقسى العقوبات ضد المشتركين في الانتفاضة بعد انتهاء المسيرة؛ لذا أرسل السيد وفداً إلى المنتفضين في السادس من شباط ترأسه السيد محمد باقر الحكيم، وهو أحد كبار طلابه، إذ وصل إلى خان النخيلة في أول الليل، واجتمع مع قادة الانتفاضة وكان المتحدث بأسم  المنتفضين .
تم الاجتماع في إحدى غرف الخان، وقد أبلغ السيد محمد باقر الحكيم المنتفضين بأن المرجعية الدينية تقف معهم، وأبلغهم أن قرار السلطة القاضي بمنع المسير إلى كربلاء قد تم إلغاؤه، دفعت تلك الظروف المنتفضين إلى تقديمهم جملة من المطالب، في مقدمتها السماح لهم بمتابعة المسير إلى كربلاء المقدسة، فضلاً عن المطالبة بإطلاق سراح الموقوفين، والسماح لهم بتشييع جنازة السيد عبد الأمير الميالي، الذي قتل في اشتباكات خان النص.
وقد أبلغ السيد محمد باقر الحكيم محافظ النجف باتفاقه مع قادة الانتفاضة على أن يبلغ قرار سلطة البعث علناً، واتفق مع المحافظ على أن يعلن هو بنفسه للمنتفضين عن تراجع سلطة البعث عن قرارها بمنع المسيرة بحضور المحافظ، إلا أن هذا الاتفاق لم ينفذ، وتمت مهاجمة المسيرة في اليوم التالي.
     فشلت سلطة البعث بامتصاص غضب الجماهير المنتفضة عن طريق إرسال وفود الوجهاء، فقررت الاستعانة بترسانتها العسكرية لإرهاب الجماهير العُزل، فأنزلت إلى الطريق المؤدي إلى كربلاء المقدسة في السابع من شباط 1977 (الثامن عشر من صَفر) أرتــــالا من الدبابات، والمدرعات، والآليات العسكرية الحربية الأخرى، بـقيادة عدنان خير الله،  مع أعداد كبيرة من أفراد القوات المسلحة المدججة بمختلف التجهيزات العسكرية، وكانت هناك طائرتان حربيتان من طراز (ميغ) تحلقان بمستوى منخفض جداً فوق رؤوس الزائرين، وقد خرقتا حاجز الصوت؛ لبث الرعب بينهم، ولم تنفذ الطائرتان سوى بعض الطلعات الجوية، إذ سقطت إحداهما في بحيرة الرزازة والأخرى في قضاء المسيب، وفي ذلك الوقت كانت سلطة البعث قد أوحت للجيش بأن هناك تمرداً واسعاً في النجف الأشرف، يستهدف الإطاحة بالنظام، بدعم جهات أجنبية، فأعلنت حالة الطوارئ القصوى في القوات المسلحة؛ ونتيجة لتلك الأوضاع أخذ المنتفضون يسلكون طريق بساتين النخيل، بعد أن أغلقت السلطات الطريق الرئيس بين مدينتي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة.
إن أحداث انتفاضة صَفر أظهرت انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان، بدءاً من منع السلطات للشعائر الدينية، مروراً بالمضايقات التي قامت بها على المؤسسات الدينية، فضلاً عن ترويع المواطنين، وإشاعة الرعب بينهم، وحالة القتل التي رافقت تلك المضايقات، وقد نص الجزء الثالث من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة السادسة: على أن حق الحياة حق ملازم لكل إنسان، ولا يجوز حرمان أحد من هذا الحق تعسفاً، وأن هناك انتهاكا واضحا لبنود المادة التاسعة من العهد الدولي التي تنص على عدم توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً، وأن هناك خرقا للمادة الثامنة عشر من العهد الدولي التي نصت على عدم إخضاع حرية الإنسان في اختيار دينه، ومعتقده للقيود، فيما أشارت المادة (21) إلى حرية إقامة التجمعات.
  المصادر
  • علي صالح عباس الحسناوي، التطورات السياسية الداخلية في العراق1973- 1979، رسالة ماجستير، جامعة كربلاء،2017.
  • ل . ت . ح . ب، الملفة المرقمة (261)، تقرير الهيأة التحقيقية المشكلة باجتماع القيادة القطرية في ليلة 7 – 8 شباط 1977 برئاسة عزت مصطفى، ورقة رقم 3.
  • محمد رضا النعماني، الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار، ط2، مطبعة إسماعيليان، قم، 1997، ص 210 – 211.