د. رائد عبيس
تجاوز النظام البعثي كل القوانين الضامنة لحقوق المرأة، سواء في القوانين المحلية، أو القوانين الدولية، فضلاً عن تجاهله لطلبات المساعدة من منظمات دولية معنية بحقوق حقوق المرأة والطفولة وحمايتها، مثل: اليونسيف في أوقات الأزمات، والتهجير الداخلي، والخارجي، والنزوح، والترحيل في داخل العراق وخارجه، وبما أن مرحلة حكم البعث شهدت أزمات كثيرة؛ لذلك خلفت مشاكل قاسية جداً على المرأة العراقية، وعلى كل المستويات. وهذه المشاكل كانت في الظروف الاعتيادية للحياة اليومية التي تتعرض لها المرأة؛ نتيجة أعباء الحياة، وانعدام المعيل، أو غيابه؛ بسبب سياسة العسكرة التي فرضها صدام وطالت الأزواج والمعيلين؛ مما تجعل المرأة تكابد ظروف الحياة وحدها. والرجال بين تجنيد للجيش الشعبي، أو في الخدمة العسكرية الإلزامية، أو في الأسر، أو في المعتقل، أو بين قتلى الحرب، أو قد يكون رقماً من بين أرقام الإعدامات التي طالت الرجال، ولا سيما ممن كانوا من المعارضة، أو الأحزاب الأخرى التي حظرها البعث، أو الهجرة خارج البلد، أو الهرب من الخدمة العسكرية التي يتعذر فيها على الرجال مزاولة حياتهم الطبيعية؛ نتيجة الملاحقات الأمنية، وكان بعضهم يبقى متوارياً عن الأنظار لسنين طوال، والنساء تقضي لهم حوائجهم.
تراكمت هذه الأعباء على النساء العراقيات بشكل عام، وعلى النساء التبعية بوجه خاص، حتى وصل الأمر إلى قرارات الترحيل التعسفية من قبل النظام البعثي البائد بحق التبعية، مثل قرار(474)، وقرار(666)، وكان بعض رجال التبعية الإيرانية متزوجين من عراقيات عربيات، أو تركمانيات، أو كرديات فيلييات، فضلاً عن النساء اللاتي كانت أصولهن إيرانية، ممن شملهن قرار الترحيل التي لم تراع فيه أي حرمة للعلاقات الأسرية، وظروف المرأة بعد هذا القرار وتداعياته قبل الترحيل وبعده، فقد ملئت بهن السجون، ومعسكرات الاعتقال، فضلا عن ذلة التحقيق والاعتداءات.
وتروي العديد من السجينات المرحلات كيف كان حالهن في أثناء تعرضهن للإهانة، وفي بعض الأحيان للاغتصاب، وبعضهن تم إعدامهن، وبعضهن منعن من إكمال دراستهن الجامعية، ومن إطلاق سراحهن، وتم نقلهن إلى الحدود ورميهن هناك، وواجهن صعوبات مادية قاهرة بعد أن جردتهن سلطة البعث من كل ما يملكن، فجعلتهن يعانين العوز والفقر، وتعرضن كثيراً من النسوة صدمات نفسية وجسدية يصعب معها طلب الحصول على رعاية طبية مباشرة.
وتروي امرأة معاناتها في أثناء اعتقالها قبل ترحيلها في يناير/كانون الثاني 1984: “كان عمري (27) عاماً عندما اعتقلوني، وأخذوني إلى غرفة مع نساء أخريات، كنت معصوبة العيون، ويدي مقيدة إلى ظهري، لقد علقوني، وعرضوني لصدمات كهربائية على مناطق حساسة من جسدي، وعندما أنزلوني ضربوني، وأغمي علي، وحين استيقظت وجدت نفسي في غرفة أخرى، ولم أعد أستطيع المشي، وكان هناك كثير من نساء والأطفال معي في المعتقل، أخذوا ثلاثة نساء من بيننا للتعذيب، وأرجعوهن من دون ملابس، وبعضهن أخذهن الحرس بضعة أيام، ومن ثم أعادوهن، ومنهن أقدمن على الانتحار”.
فتعرض الكرد الفيليون وجميع نساء التبعية الإيرانية المرحلات، إلى مختلف أنواع الصدمات التي يعد العنف الشديد فيها هو القاعدة، ولعل أبرز معاناتهن كانت في فقدان الزوج، والأبناء، والأهل، والأصدقاء، والأقارب، إلى جانب معاناتهن في المعتقلات، والتعذيب، وإجبارهن على ترك البيوت، والرحيل, وهن في مجتمع محافظ يصعب عليهن كل ذلك، وهن اللواتي يفترض أن يتمتعن بحقوق خاصة، مثل: حقوق الأمومة، وحق رعاية الحوامل منهن، وحق الحرمة، وكرامة الشرف، وحق رعايتهن كفئة اجتماعية ضعيفة مقارنة بالرجال، وحق العمل والاكتفاء الاقتصادي الذي حُرمن منه، نتيجة ترك كل شيء والذهاب بمجرد الملابس!
كانت عملية الترحيل المفاجئة قد شكلت لهن صدمة حقيقية، إذ انفصلن عن بيئة اجتماعية قد نشأن فيها، ولهن فيها روابط اجتماعية كبيرة من مصاهرة، وعمل، وتعايش، وصعب عليهن ذلك، وشكل لهن ألماً بالغاً، فقد أكرهن على ظروف حياة جديدة، وتغيير محال إقامتهم بتعسف كبير.
بشكل طارئ وجدن أنفسهن مرميات على الحدود بين الجبال، والوديان، والأفاعي، والحيوانات المفترسة، ومزارع الألغام، ووحشة الطرق، وشعور الضياع، والفقدان الرهيب، إلى جانب الملاحقات الأمنية، وكيفية التصرف في واقعهن الجديد، وهن يتوسلن بحراس الحدود أن يساعدوهن في شيء من ماء وطعام، وإرشاد فيما ينجينهن، فضلاً عن صعوبة التعامل مع الجانب الإيراني من حيث اللغة، والإجراءات، والاستقبال، والإيواء، والقبول بالتوطين ولو مؤقتاً.
فكانت حياتهن في معسكرات اللجوء، وخيام الإيواء بمثابة غرفة انتظار، وهن ينتظرن بيأس وصول أزواجهن الذي وعدهن أزلام النظام البعثي بترحيلهم ورائهن.
فكان القلق والخوف سيد الموقف معهن، من حيث قلقهن على بناتهن الشابات اليافعات، وقلقهن على كبار السن منهن، ممن لا يقوين على الحركة والتنقل، وقلقهن على الحوامل اللواتي فقد بعضهن حملهن؛ نتيجة الظروف القاسية التي تعرضن لها. فضلاً عن مخاطر خطف النساء، والاغتصاب، وغيرها.
كانت بعض النسوة لهن أطفال مما زاد العبء عليهن من حيث صعوبة الحركة مع الأطفال، والجوع، وقسوة البرد، وشدة الحر، وتذكر تقارير منظمة العفو الدولية موت كثير من الأطفال؛ نتيجة قسوة الظروف المحيطة بهم.
-
ينظر: تقرير ماكس فان دير ستول، حالة حقوق الإنسان في العراق، الجمعية العامة للأمم المتحدة، تقرير 8 November 1996، A/51/496/Add.1، الفقرة 2، 11.