خرق مبدأ استقلالية القضاء في نظام البعث رئاسة طه الجزراوي للمحكمة أنموذجاً
أ.د. حسين الزيادي
استقلالية القضاء تعني التحرر من تدخل السلطات الأخرى، أما حيادية القضاء فتعني قدرة القاضي على الحكم في أي دعوة دون أي تحيز شخصي لمصلحة طرف من أطراف النزاع، ومن هنا ظهر ما يسمى بمبدأ تنحية القاضي عن نظر الخصومة والحكم فيها، وهو ما يعبر عنه في القوانين بمبدأ رد القاضي، ولا شك أن هذا المبدأ من أهم المبادئ التي يعتمدها المشرع لضمان القضاء العادل، فقد تحيط بالدعوى المطروحة ظروف وملابسات يحتمل تأثيرها في نزاهة القاضي، أو تسبب لديه حرج عند الفصل فيها، أو تثير الشك لدى الخصوم في انحياز القاضي لصالح خصم دون آخر، وبذلك تحيد المحاكمة عن هدفها المنشود، وتحوطاً لذلك تبنى المشرع هذا المبدأ، وهذه الأحكام، فوردت في المادة (91) من قانون المرافعات المدنية منع القاضي من نظر الدعوى في أحوال عديدة منها: أن يكون أحد أبويه، أو زوجته، أو أحد أقربائه للدرجة الرابعة، خصماً في الدعوى، أو له مصلحة فيها، فضلاً عن حالات أخرى نصت عليها المادة المذكورة آنفاً، وتناولت المادة (93) الحالات التي يجوز فيها رد القاضي، ومنها إذا كان أحد الطرفين مستخدماً عنده، أو كان قد أعتاد على مواكلته أو مساكنته، أو إذا كان قد تلقى منه هدية قبل إقامة الدعوى أو بعدها، أو إذا كان بينه وبين أحد الطرفين عداوة أو صداقة، أو إذا كان قد أبدى رأياً فيها قبل الأوان.
وللتعريف ببنية المؤسسية القضائية في العراق، ودرجات تصنيفها إبان حكم البعث، لابد من القول إن النظام القضائي لم يكن يختلف كثيراً عن النظام القضائي في الأنظمة الشمولية، إذ لا توجد استقلالية لسلطة القضاء، وإنما هناك سلطة سياسية واحدة يقودها الحزب، وإن الأجهزة الأخرى، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، عبارة عن وظائف لخدمة أهداف القيادة السياسية، وتحقيق رغبات القائد الأوحد، وقد جاء دستور عام (1970م)؛ ليكرس السلطات والصلاحيات التشريعية والتنفيذية جميعاً بمجلس قيادة الثورة، بوصفه الهيئة التشريعية العليا الذي يحق لها إصدار القوانين والقرارات التي لها قوة القانون كما في المادة (42)، التي نصت على أن يمارس مجلس قيادة الثورة صلاحية إصدار القوانين والقرارات التي لها قوة القانون، وبتعبير آخر أن السلطة اعتمدت على أجهزة مختلفة لتوطين حكمها، ومن بينها الجهاز القضائي؛ لذا تشكل مجلس العدل برئاسة وزير العدل الذي غالباً ما يكون أحد رجالات السلطة، بدلاً من مجلس القضاء الأعلى، وبذلك أصبح القضاة المدنيين موظفين تابعين لإرادة القائمين على الوظيفة التنفيذية (وزارة العدل)، شأنهم شأن أي موظف تابع لهذه الوزارة.
وتأسيساً على ما تقدم تحول الجهاز القضائي في ظل نظام البعث إلى وظيفة لخدمة أغراض القيادة السياسية، والهرم الأعلى في الدولة، وتشرذم القضاء الجنائي، وتوزع على وزارات ومؤسسات الدولة العسكرية والأمنية؛ بغية إحكام السيطرة على مفاصل الدولة، وحركة المواطنين، وتقييد حرياتهم، بحسب الآتي:
أولا: قضاء محكمة تمييز العراق المرتبط بوزارة العدل: كان القضاء الجنائي التابع لهذه المحكمة مهمشاً تماماً بحكم انتماء أغلبية الشعب العراقي إما للجيش، أو قوى الأمن الداخلي، أو الأمن، أو المخابرات، أو الجيش الشعبي، وجميع هذه المؤسسات تخضع للقوانين العقابية العسكرية، وقانون أصول المحاكمات العسكرية لسنة 1941؛ وبالتالي فإن الجرائم التي ترتكب بين منتسبي هذه المؤسسات تخضع في حسمها للقضاء العسكري مهما كانت جسامة الجريمة، وسواء ارتكبت الجريمة في أثناء أداء الوظيفة أو خارجها، وأن محكمة التمييز لا سلطة لها أمام قرارات المحاكم الخاصة.
ثانيا: قضاء محكمة التمييز العسكرية، وقوى الأمن الداخلي، والمشتركة بينهما: وترتبط هذه المحاكم بالوزير المختص، أي وزير الدفاع أو وزير الداخلية، وهي تقوم بتطبيق القوانين العقابية العسكرية جميعا بحق منتسبي هذه المؤسسات في أثناء الوظيفة، أو خارجها.
ثالثا: قضاء المحاكم الخاصة: شكلت محاكم خاصة؛ لسلب ما يمكن من اختصاصات المحاكم الجزائية التابعة لمحكمة التمييز، وهذه المحاكم تفتقر لأبسط معايير العدالة، وهي على نوعين، فهناك المحاكم الخاصة الدائمة، والمحاكم الخاصة الاستثنائية التي يشكلها مجلس قيادة الثورة، وهي تتوزع كالاتي:
1- قضاء محكمة الثورة: شُكلت هذه المحكمة بعد انقلاب 1968، وحددت اختصاصاتها بالجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي والخارجي المنصوص عليها بالمواد (156-222) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969، والجرائم الواقعة على السلطات العامة المنصوص عليها بالمواد (223-116) من القانون المذكور، وغيرها من الجرائم التي يقرر رئيس الجمهورية إحالتها إلى هذه المحكمة، أي أنها أعطت الصلاحية الكاملة لهرم السلطة، وكانت قرارات هذه المحكمة قطعية غير قابلة للطعن أمام أية محكمة أخرى، وهذا يعد مخالفة قانونية للنظم القضائية في العالم جميعاً.
2- قضاء الوزارات والأجهزة الأمنية: وهي محاكم شكلت خارج تشكيلات المحاكم العسكرية، وقوى الأمن الداخلي، كالمحاكم الخاصة في وزارة الدفاع، والداخلية، والأمن العامة، والمخابرات، والأمن الخاص، وهناك قضاء الصلاحيات الخاصة، إذ كانت بعض قرارات مجلس قيادة الثورة تمنح بين الحين والآخر، رؤساء الوحدات الإدارية، وبعض ضباط الشرطة، والموظفين صلاحيات قاضي جنح؛ لغرض انزال بعض العقوبات بحق الأشخاص، وبذلك سلبت اختصاصات المحاكم الجزائية، وخلاصة القول إن النظام القانوني إبان حكم البعث لا يمثل إلا إرادة الحزب وقائده.
وفضلاً عما تقدم فهناك مخالفة واضحة في معايير اختيار القضاة، فمن المعروف أن أهم الشروط الواجب توافرها في القاضي أن يكون حاصلاً على شهادة أولية في القانون على أقل تقدير، وممارسة فعلية لمهنة المحاماة مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، وليس في مرافعاته، أو عمله خلل على حساب الحق، والعدالة، والقانون، أو أنه مارس وظيفة قضائية، أو قانونية، في دوائر الدولة، ويخضع لمن يرشح لتولي مهنة القضاء لاختبارات شفهية وتحريرية إذا تجاوزها يقبل للدراسة في المعهد القضائي لمدة سنتين يتلقى فيه محاضرات نظرية، وعملية، وتطبيق عملي.
إن الذي حدث في زمن البعث لا يقبله المنطق، ولا يستسيغه العقل، ولا تقره شريعة أو قانون، فالكثير من المحاكم الخاصة ترأسها أناس لا علاقة لهم بالقانون، فضلاً عن كونهم من أركان السلطة الحاكمة، فالمعيار المتبع هو ولاء رئيس المحكمة للسلطة الحاكمة، إذ تم في إحدى المحاكم على سبيل المثال تعيين طه الجزراوي قاضياً ورئيساً لمحكمة أقامها نظام البعث، وهو الشخص المقرب من رأس الهرم في نظام البعث، وهو الشخص الذي عرف بإجرامه وانحرافه، ومعه ناظم كزار بوصفه معاوناً لرئيس المحكمة، والأخير هو مدير الأمن العام، فكيف يتحقق العدل على أيدي مثل هؤلاء الذين لا يملكون أدنى مستوى من المعرفة في مجال القضاء؟!، وحتى لو سلمنا جدلاً بوجود شهادة القانون لدى هؤلاء، وأن المحكمة جاءت لظروف طارئة، فإن هؤلاء معروفون بولائهم المطلق للنظام؛ لذلك لا عجب أن تنعقد المحكمة بتوجيه التهم الجاهزة للضحايا، ولا يستطيع أي ضحية أن يبدي دفاعه عن نفسه؛ لأن التهم، والأحكام جاهزة قبل انعقاد المحكمة ، وهو أمر طبيعي عندما يكون الخصم هو الحاكم والمحقق.
أما السند الدستوري؛ لتعيين القضاة، فيظهر في المادة (الثانية والأربعين) من دستور 1970 الذي نص على أن يمارس مجلس قيادة الثورة إصدار القوانين والقرارات التي لها قوة القانون، وإصدار القرارات، في كل ما تستلزمه ضرورات تطبيق أحكام القوانين النافذة، وأن تعيين القضاة يظهر بشكل أكثر خصوصية في الفصل الثالث / المادة (56/د) التي نصت على أن يمارس رئيس الجمهورية صلاحية تعيين الحكام والقضاة وموظفي الدولة المدنيين والعسكريين جميعاً، وترفيعهم، وإنهاء خدماتهم، وإحالتهم على التقاعد، ومنح الأوسمة والرتب العسكرية، وفقاً للقانون، ونصت الفقرة (ج) من الفصل الرابع المادة (60) على أن يحدد القانون طريقة تشكيل المحاكم، ودرجاتها، واختصاصاتها، وشروط تعيين الحكام، والقضاة، ونقلهم، وترفيعهم، ومقاضاتهم، وإحالتهم على التقاعد.
إن إجراءات المحاكمة التي قام بها نظام البعث تُعد مُخالفة صريحة للعهود والمواثيق الدولية، فعلى سبيل المثال نصت المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على: (أن الناس جميعا سواء أمام القضاء، ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه، أو في حقوقه، والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف، وعلني، من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون) ، أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام (1948) في المادة العاشرة منه على أن : (لكل إنسان الحق في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مستقلة ومحايدة)، فالمحاكم التي أنشأها نظام البعث بعيدة كل البعد عن الاستقلالية والحيادية، فضلاً عن عدم امتلاكها لأدنى مراتب الشرعية؛ لأنها تتكون من أفراد غير مؤهلين من الناحية القانونية، وكل ما تقدم ينافي التزامات العراق بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أكد الحق في الحياة، والحرية، والأمن الشخصي، والخصوصية، وحرية التعبير، والذي صادق عليه العراق عام 1971.
والذي أكدت أهميته دیباجة میثاق الأمم المتحدة، إذ جاء فیه (أن استقلال السلطات القضائية تبین الأحوال التي یمكن في ظلھا تحقیق العدالة، وأن تؤكد من جدید إیمانھا بالحقوق الأساسية للإنسان، وینص النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولیة على أن ھیأة المحكمة تتكون من قضاة مستقلین، وتنص الاتفاقیة الأوروبیة لحقوق الإنسان على أنه (لكل فرد لدى الفصل في حقوقه، والتزاماته المدنية؛ حق في محاكمة عادلة من قبل محكمة مستقلة ومحایدة تقرر حقوق الفرد، وواجباته، وتفصل في أية تھمة توجه إلیه، كما توالت دساتیر العالم في النص على مبدأ استقلال القضاء، وإحاطته بمظاھر الاحترام والتقدیر، ومنها دساتير العراق لعام 1968 و1970، التي يفترض أن تحكم نظام البعث.