د. رائد عبيس
يُعد هذا الموضوع أحد أوجه دراسة ظاهرة التطرف في السلوك السياسي، والسلوك الإجرامي بصيغته الرسمية، ولا سيما أنه صادر من جهة سياسية عليا بعنوان “مجلس قيادة الثورة” ومن شخص يقود هذه السياسة الذي شرع قوانين كثير، منها مخالفة لمنطق العقل، والدين، والتشريعات الدستورية، والقوانين الدولية، والحقوق الإنسانية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، والعهدين الدوليين.
وواحد من هذه القوانين هو قانون رقم (666) لسنة 1980 الذي نشر في الجريدة الرسمية / الوقائع العراقية ذي العدد: (2776)، والمؤرخ في 26/5/1980. وينص هذا القرار على الآتي: استنادا إلى أحكام الفقرة (أ) من المادة (42) من الدستور.
(قرر مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة بتاريخ 7/5/1980 ما يلي :
-
تسقط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن، والشعب، والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة.
-
على وزير الداخلية أن يأمر بإبعاد كل من أسقطت عنه الجنسية العراقية بموجب الفقرة (1)، ما لم يقتنع بناء على أسباب كافية بأن بقاءه في العراق أمر تستدعيه ضرورة قضائية، أو قانونية، أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسميا.
-
يتولى وزير الداخلية تنفيذ هذا القرار (.
وهذا القرار يعد مخالفة فاضحة للمادة الخامسة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونصها: (لكل فرد حق التمتع بجنسية ما، ولا يجوز تعسفاً حرمان أي شخص من جنسيته، ولا من حقه في تغيير جنسيته)، والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها رسمياً نظام البعث، وهي: الاتفاقية الدولية للقضاء على أشكال التمييز العنصري جميعاً لعام / 1965. وكذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، فضلاً عن الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها لعام 1973، وكذلك اتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة جميعاً لعام 1979، فضلاً عن اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989.
إلا أن حكومة البعث لم تلتزم بكل ما ورد في هذه الاتفاقيات، والقوانين، وخربت النسيج الوطني المتنوع، بدوافع سياسية إقصائية على حساب تنوع المكونات العراقية.
وبغض النظر عن الخلفية السياسية لمثل هذه التشريعات التي تعود جذورها إلى بداية تأسيس الدولة العراقية، وتشريع أول دساتيرها في 1925، وصدور قانون الجنسية العراقية رقم (42) لسنة 1924 بتأريخ 6/8/1924، المثير للجدل، وما تلاها من تشريعات دستورية، وقانونية، في قضية الجنسية والتجنس التي بقيت تحت تأثير الظروف السياسية إلى اليوم.
إلا أن البحث في أسباب تشريع هذا القانون وتداعياته المدمرة التي بقيت آثارها ماثلة، يشخص حالة أساسية في سلوك هرم السلطة البعثية، ومجلس قيادة الثورة، ألا وهو النزعة الإجرامية والعدائية التي يشرعنها، ويسوغها بقوانين تعزز من سلطته، ويحقق شموليته في الحكم الذي أسس له في دستوره، وهويته القومية التي بدأت تمسخ الهويات الأخرى، من خلال تشريعات، وتهديدات، وإغراءات تقدم لتغيير القومية لكثير ممن كانوا مشمولين بقرارات الترحيل من: التبعية الإيرانية، والقومية الكردية الذين أبقوا بعضهم لاستثناءات خاصة، ولا سيما حملة الشهادات العليا، والخبراء، والأطباء، ولكن مع إبقائهم تحت المراقبة الاستخباراتية السرية، في قرار لمجلس الأمن القومي 15/12/1988.
والذي كان موقف صدام واضحاً اتجاههم، وينم عن عداء واضح، جاء ذلك بقوله في خطاب عام 1981 بعد عمليات الترحيل: ” لقد اقتلعوا من التراب العراقي، حتى لا يدنسوا التراب العراقي، والهواء العراقي، ولا يدنسوا الدم العراقي عندما تختلط دماؤهم بالدم العراقي بالزواج. وهكذا اقتلعتهم الثورة من الجذور لتقضي عليهم… ليبقى الوطني العراقي النقي الشريف جباهه مرفوعة إلى الأبد…“
هكذا كان صدام يسوغ تطرفه في المواقف والقرارات، تحت عناوين قومية، وعراقية وحزبية، وثورية؛ محاولاً بذلك إثارة نزعة عِرقية بين الأوساط الشعبية معادية للعِرق الفارسي والكردي- وهذا ما كان واضحاً في سلوك البعثيين ومؤيديهم -؛ مخالفاً بذلك كل الأسس الدينية، والأخلاقية، والتشريعات الأممية، في مجال حقوق الإنسان، وحقه في الإقامة، والسكن، والتنقل، والحركة، والتجنس، والتملك.
ويحكم على من سكنوا العراق سنين طويلة، حتى قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة! وقبل حكم حزب البعث أصلاً! بأنهم ينجسوا أرض العراق! ولا يريد للدماء أن تختلط! وهي مختلطة منذ أمد بعيد، وتأسس على هذا الاختلاط وئام اجتماعي، ومصاهرة، وأسر، وعوائل، ومعاشرة، وعمل، ونظام اقتصادي معين.
ويذكر أن الثورة هي التي اقتلعتهم! بمعنى أن العمل الثوري هو الأكثر نفاذا من القانون، والقانون يجب أن يتوافق مع مبادئ الثورة، وهذا ما عمله عليه فعلاً، وأسس له من خلال مجلس قيادة الثورة التي وقّعت به كل المراسيم، ومُخالفته تعد جريمة، وإن كانت هذه القرارات فاقدة لكل الأبعاد العقلانية، والمنطقية، والإنسانية، والشرعية!.
والسؤال الذي يطرح هنا، من يحدد الولاء للدولة؟ وكيف يتم تقييم الخيانة؟ كما ورد في الفقرة الأولى من القانون (666) أعلاه.
حتى نكتشف، كم كان هذا القانون يحمل أبعاداً من التوظيف السيء لا يمكن حصره؛ ليتسنى للسلطة الصدامية تطبيقها على وفق مشتهياته؛ لأن “خيانة الأهداف الوطنية والاجتماعية العليا للثورة” لا يمكن معرفة الكيفية التي يمكن بها التقييم! وأنه من غير الواضح، ولم تحدد أي هيئة حكومية معنى عدم الولاء! وأعطيت بذلك صلاحية لوزير الداخلية، ومن يتهمهم بعدم الولاء للدولة، وللحزب، وللقائد عبر عناصره الأمنية والحزبية.
والواقع أن تطرف صدام في تطبيق القانون بحق التبعية الإيرانية، والكردية، أو أي شخص مسجل تبعية، كان مبيتاً وواضح الهدف منه، الأول: من خلال المدة الزمنية التي منحها لغير المجنسين في مرسوم (180) لسنة 1980، وهي (6) أشهر للتسجيل. وثانياً عندما عني الإيرانيون بمرسوم خاص مانعاً عنهم كل الحقوق المكتسبة في العراق في مرسوم (518) لسنة 1980.
وكان يعطي أولوية للأبعاد القومية والثقافية والعرقية في ثقافة التبعية، كعوامل مهددة لطبيعة هوية الدولة القومية البعثية، وهي من وجهة نظره تشكل خطراً واقعياً عن تنمية الأمة العراقية والعربية على وفق النظام العربي الاشتراكي الذي يعد أحد مقومات الحكومة البعثية.
وقد ذكر ذلك فاضل البراك في كتابه المدارس اليهودية والإيرانية ” لقد لعبت جماعة التبعية دوراً في معاداة التنمية الوطنية، وتطلعات الأمة العربية، وحاولت منع الحكومة الوطنية من الوصول إلى السلطة في العراق”. (ص 265،1985)
ومن الواضح أن مرسوم (666) لم يكن يعني التبعية الإيرانية أو الكردية، بل عمم بها ذلك تحت عبارة “الأجنبي”، بل تعدى ذلك إلى كل عراقي لم يوالِ السلطة البعثية، أو يعارضها صراحة، وأسقطت الجنسية عن كثير من العراقيين المعارضين السياسيين، وأقاربهم، وجاء ذلك في مرسوم مجلس قيادة الثورة رقم (677) الصادر في (26) آب/ أغسطس 1987″: أو من ثبت لهم صلة قرابة بإيراني أو كردي فيلي بمراسيم خاصة. مثلما جاء مثل ذلك بوضوح في توجيه وزير الداخلية رقم (3884) بتاريخ 10 / 4/ 1980م الذي نص على: ” إذا كانت هناك عائلة حصل بعض أفرادها على الجنسية (العراقية)، والبقية لم يحصلوا عليها فإن مبدأ “توحيد الأسرة في خارج الحدود يجب أن تنطبق”، بمعنى ترحيلهم جميعاً. ولا سيما من كان لديهم مناصب في الدولة، فقد حرموا منها بذريعة عدم الموثوقية فيهم، وعلى أنهم غير جديرين بخدمة الدولة العربية الاشتراكية البعثية، وبناءً على هذا التوجيه بدأ أعضاء حزب البعث وضباط الأمن يطرقون أبواب كل منزل في العراق تقريبًا، ويطلبون من رب الأسرة تقديم شهادة جنسيته. وبدأت عملية الترحيل لكل عائلة يتبين أنها لا تملك شهادة جنسية، أو لا تثبت عراقيتهم بها من دون شبهة التزوير، ويأمرونهم بالركوب في شاحنة تقلهم إلى مقرات الأمن، ومن ثم يتم نقلهم إلى الحدود، ولم يُسمح لهم بأخذ أي شيء معهم على الإطلاق، باستثناء الملابس التي يرتدونها.
وكانت المجموعة الأولى التي تم ترحيلها هي مجموعة من التجار. تمت دعوتهم بحجة لقاء أحد المسؤولين، ومع ذلك تم القبض عليهم، ونقلهم إلى شاحنات، وتم رميهم على الحدود بين العراق وإيران، وأجبروا على السير إلى إيران. وأطلق النار على الذين حاولوا العودة، تنفيذاً لتوجيهات وزير الداخلية رقم (3884) تاريخ 10/4/198020 التي أمرت القوات الأمنية بإطلاق النار على الذين يحاولون العودة إلى العراق. هذا كله ولم يكن للقضاء فيه أثر يذكر، بل اقتصر الأمر بين مجلس قيادة الثورة، وفرق الجيش التي تنفذ الاعدامات لكل مخالفة لهذه المراسيم!
ومن ثم تلتها مجموعات أخرى، استمرت بها عمليات الترحيل في أثناء الحرب العراقية الإيرانية وحتى في عقد التسعينيات، مخلفة بذلك مآسٍ، وتراكمات يصعب معالجتها. ولا سيما أن الإيديولوجية البعثية أخذت في منهاجها كل الحسابات البايولوجية، والثقافية، والسياسية، والدينية، في تركيبة التنوع البشري في العراق بين هذه الأصول وعراقتيها المكتسبة والأصيلة، مما عقدت الحلول بين تشريع القوانين المنصفة لضحايا هذه الجريمة، وبين التطبيقات التي تشوبها الحسابات السياسية المعطلة لقواعد الأنصاف في ما بعد 2003.
وللحديث تتمة…