banarlogo

ملامح التطرف والتكفير في واقعة الطف

ا.د. حسين الزيادي
      تُمثل واقعة الطف وما دار فيها من مواقف وأحداث أنموذجا درامياً لأبشع صور التكفير والإرهاب، ومن هذا المنطلق لم يُعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) موضوع فجيعة وبكاء فحسب، وإنما أصبح موضوع تأمل وبحث وتدبر، وتوظيف لخلق حالة من الوعي في ميادين الفكر والفلسفة والسياسة والاخلاق، فواقعة الطف شجرة معطاءة تؤتي ثمارها منذ انبثاقها والى ما شاء الله، ومن هنا جاءت هذه القراءة لاستلهام شيء من دروس المواجهة الدامية التي لم تكن وليدة يومها، بل كانت نتيجة لصراع بين مشروعين فكريين متضادين هما: المشروع السلطوي التكفيري المتطرف الذي يمثله المعسكر الأموي، ومشروع الاعتدال والوسطية والإصلاح والفضيلة الذي يسعى لبناء الإنسان وتحريره من قيود العبودية ويُمثله الإمام الحسين عليه السلام، في هذه الواقعة تَجلت في المعسكر الأموي اتجاهات تكفيرية غايةً في التطرف لا تتمثل خطورتها في غرابتها  وشذوذها الأخلاقي فحسب، وإنما في خروجها من إطارها الفقهي والأصولي إلى إطار آخر أكثر خطورة وجسامة، وهو إلغاء الفكر المخالف وقتل شخوصه مهما كانت مكانتهم وقرابتهم من النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وهو أتجاه يُعد من مرتكزات الجماعات المتطرفة في عالم اليوم، ومن ذلك اتهام الإمام الحسين بالخروج عن الدين، وقتله وأهل بيته، والتمثيل بجسده الشريف، وسبي نساءه وعياله وترويع اطفاله، وحَرق خيامه، ومنعه من الماء.
 وإذا كان الثابت بأن الخوارج أول من رفع لواء التكفير صراحة في وجه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فإن واقعة الطف شهدت ولادات غريبة أماطت اللثام عن ملامح الفكر التكفيري المتطرف بأحداث وشواهد متعددة، نأتي على بعض منها، فكان المعسكر الأموي يَرى في الإمام الحسين خارجاً عن الدين، وهم يعلمون انه البقية الباقية من أهل بيت النبوة، وآية المودة، وبقية آية التطهير، وآية المباهلة.
إن أبرز ما ميزته واقعة الطف هو بيان ملامح الفكر التكفيري، إذ لم نقرأ في تاريخ  الأمم والشعوب، إن أمة كفرت أبن بنت نبيها, وتطرفت في قتله وقتل أطفاله والتطاول على نساءه وترويعهن وهتك ستورهن، ومن ثم قطع رؤوس الشهداء والمُثلة في أجسادهم, ومن المقولات التأسيسية التي تؤشر ما يتبناه القوم من أصول ومبادئ ومفاهيم تكفيرية متطرفة، قولهم بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام (أحرقوا بيوت الظالمين, ولا تبقوا لأهل هذا البيت باقية) ، وهذه المقولة التي تعكس وجهة نظر المعسكر الأموي وما يؤمن به ويتبناه، تؤصل للإرهاب والتطرف الفكري الى يومنا هنا، فحرق البيوت والممتلكات سياسة ثابتة في نهج الجماعات التكفيرية المتطرفة التي أُبتليّ بها العراق ردحاً من الزمن، وأعلنت على رؤوس الأشهاد بغضها وعدائها لأتباع أهل البيت (ع) ، وما أيام التفجيرات والمفخخات التي نالت الابرياء عنا ببعيد، أما قولهم لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية فهي دعوة مستمرة للإبادة الجماعية تدعو للقضاء على الفكر الذي لا يوافق فكرهم ولا يتطابق معه، مهما كان مصدره وأدلته حتى لو كان أصحابه هم أهل بيت النبوَّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنزيل.
   ومن المقولات التي تؤصل لمبدأ التكفير خلال معركة الطف الخالدة قولهم للإمام الحسين عليه السلام وهو في لحظاته الأخيرة (يا حسين؛ لن تذوق الماء حتى تَرد الحامية)، فأي منطق هذا الذي يُكفر أبن بنت النبي وهو وريث النبوة والإمامة وسيد شباب أهل الجنة، وقد سمعوا أقوال النبي فيه وفي أخية، ويعرفون مكانته من جده المصطفى.
لقد تجسّدت في واقعة الطف أبشع مشاهد التطرف والتكفير والإرهاب، إذ عَمَد المجرمون إلى قطع رؤوس الشهداء من العترة الطاهرة والمؤمنين من أنصارهم، وحملوها ومثّلوا بها ووضعوها على أسنّة الرماح؛ ليرسلوها بعنوان هدية النصر ـ المزعوم ـ إلى طاغيتهم المستبد يزيد بن معاوية، وهي الطريقة الشائعة التي تبرز أبشع صور العنف واكثرها دموية، حيث انتشرت فيديوهات كثيرة توثق من خلالها التنظيمات المتطرفة  كالقاعدة و داعش ونظائرهما عمليات قطع رؤوس العديد من الضحايا، فقد أستدعى هؤلاء كل النصوص والمشاهد الظلامية من أجل أن تكون جرائمهم منسجمة مع تراث العنف والقتل والبطش الذي كان جزءاً من تاريخ الحركات المنحرفة في التاريخ، وقدم هؤلاء خلاصة خبيثة لما يمكن أن يفعلوه لو تمكنوا من دولة الاسلام .
إن من مظاهر التطرف والانحراف الفكري قيام البعض من المتأخرين بوصف خروج الإمام الحسين عليه السلام بالخطأ – كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفواههم إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا – ولا ندري كيف يتصور هؤلاء ان يكون الإمام الحسين (عليه السلام) خارجياً أو مخطئاً، والنبي (صلى الله عليه وآله) يصفه بسيد شباب الجنة؟ قائلاً في مورد آخر: احب الله من احب حسينا*، وهو وريث النبوة والإمامة وريحانة المصطفى ، وكيف يريدون من الإمام الحسين عليه السلام ان يبايع  فاسقاً متجاهراً بالكفر شارباً للخمر متخذاً للغلمان والكلاب معلناً للفسق والفجور، ولا عجب في ذلك فيزيد عاش في بيئة قاحلة من القيم السامية، فنشأ فاسداً، منحرفاً، شريراً، مختلاً .
   لقد أراد الإمام الحسين عليه السلام، في نهضته الخالدة أن يؤسس لإعلان إنساني يكشف من خلاله زيف وانحراف الفكر التكفيري المتطرف، ويُرسي لمبادئ حقوق الإنسان، فعندما رَفع الإمام الحسين شعار: هيهات منا الذلة، كان يُريد من وراء ذلك أن يحفظ للإنسان كرامته ويحررهُ من الفزع والرعب والخوف الذي تجذّر في داخله لسنين، وهذا يتماشى صراحةً مع نصوص العهدان الدوليان الخاصان بالحقوق المدنية والسياسية، حيث جاء في الديباجة ضمن المادة الثامنة عشر: لا يجوز إخضاع أحد للعبودية ولا يجوز إخضاع الإنسان لدين أو معتقد ، ولكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان، ولا عجب ان تتطابق المبادئ والقوانين والإعلانات الخاصة بحقوق الإنسان مع مُعطيات وحقائق معركة الطف التي ترجمت بكل أمانة صراع الحق مع الباطل، فقد شرع الإسلام – منذ أربعة عشر قرنا – حقوق الإنسان في شمول أكبر وعمق أدق، وأحاطها بضمانات كافية لحمايتها، وضع المنهاج السليم لحياة هانئة يسودها التعايش السلمي والأمن المجتمعي، بدلا من النزاعات والحروب، حياة يتنفس فيها الإنسان معاني: الحرية، والمساواة، والإخاء، والعزة والكرامة ، ويَقف فيها الحاكم والمحكوم أمام القضاء على قدم المساواة، وانطلاقا من هذه المبادئ رفع الإمام الحسين عليه السلام لواء الدعوة الى المساواة التي تنبع من وحدة الأصل الإنساني المشترك.
  لقد رَام الإمام الحسين عليه السلام تحقيق أهداف الإسلام الحقيقة المتمثلة بتوفير حياة مقدسة للإنسان، مؤكداً على حماية كيان الإنسان المادي والمعنوي في حياته، وبعد مماته، وان لكل شخص حرية الاعتقاد، وحرية العبادة وفقا لمعتقده، فكانت تلك المبادئ والأهداف لا توافق الأفكار والرؤى التكفيرية المتطرفة التي تبيح سفك دماء من يخالفها في الرأي وانتهاك حرماته وسلب ممتلكاته، فكانت دماءه الزاكية عليه السلام قرباناً لتحقيق مبادئه السامية الرامية لضمان كرامة الانسان بوصفها أساس كافة الحقوق، فهي كرامة متأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية في جميع الأزمنة والأماكن وهي ليست مكافأة تُهب وتعطى، وألى ذلك أشارت المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948.