ataba_head
banarlogo

نظام البعث وخرق مبدأ شخصية العقوبة

بقلم أ.د. حسين الزيادي
    يعني مبدأ شخصية العقوبة أن لا تصيب العقوبة غير الجاني الذي تثبت مسؤوليته، من دون غيره، وإن كانوا من أقرب المقربين له، وينطلق هذا المبدأ القانوني من الفلسفة الإسلامية التي شرعت عدم مجازاة غير مرتكب الجريمة، فضلاً عن كونه يتماشى مع المنطق والعدالة والفكر العقابي الحديث، والمسؤولية الجنائية، ويعدّ مبدأ شخصية العقوبة من أهم المبادئ الدستورية التي اشتملت عليها دساتير الدول وقوانينها؛ إذ لا يسمح أن تمتد العقوبة لغير شخصية الجاني، الأمر الذي يعدّ ضمانة أساسية من ضمانات حقوق الإنسان.
   في نظام البعث كان المواطن يحتاج للموافقة الأمنية في كل مناحي الحياة، ومنها: الزواج والعمل والسفر والدراسة والابتعاث، أو فتح مشروع، أو حتى إحياء أمسية شعرية، أو مهرجان ثقافي، وغير ذلك، وقد جعلت حكومة البعث من الموافقات الأمنية وسيلة ممنهجة وموجهة لخدمة أهدافها الخاصة، فكان المواطن يعاقب على فعل أقاربه حتى الدرجة الرابعة، التي تشمل: ابن العم ، وابن العمة ، وابن الخال ، وابن الخالة وأبناء إخوة الزوج أو الزوجة، وعم وعمة وخال وخالة والد الزوج أو الزوجة، وكان الشخص يُمنع من الالتحاق بالكليات العسكرية، أو السفر، أو فتح مشروع معين، ويمنع من حقه في إكمال الدراسات العليا، إذا كان أحد أقاربه من الدرجة الرابعة معارض للنظام، أو معدوم، أو هارب خارج العراق، ووصل الأمر إلى منع زواج العسكري من امرأة في حال أن أقاربها متهم بمعارضة النظام او مسجون بتهمة سياسية او معدوم او خارج العراق، وحدثت حالات كثيرة لزيجات لم تتم؛ بسبب عدم حصول الموافقات الأمنية، على الرغم من خطبة المرأة، ومضيّ مدة معينة على ذلك، وللقارئ أن يتصور الوضع الاجتماعي والنفسي للمرأة وعائلتها.
 ويترتب على الانتماء لأحزاب المعارضة في الخارج، أو تبني موقف معارض لنهج حزب البعث في إدارة الدولة قيام النظام بجملة تدابير تعسفية، تستهدف ذوي المعارض، وأقاربه حتى الدرجة الرابعة، أو صاحب الرأي، أو المُلاحق، أو المُحكوم حضورياً، أو غيابياً، فيكون تأثيرها من الناحية الاجتماعية الوصمة الاجتماعية السلبية التي توصم بها عائلة المعارض من أبناء وأخوة وأقارب، فضلاً عن تقييد الحق في الزواج ، الأمر الذي قد يؤدي في أوضاع عدة إلى إفشال كثير من الزيجات، أما من الناحية الاقتصادية فتتمثل العقوبة بالحرمان من الوظيفة العامة؛ لأن التعيين الوظيفي يشترط فيه الموافقة الأمنية كإجراء سابق للتعيين، والإقصاء من مواقع ومناصب وظيفية معينة، لمن هم مستمرون في الخدمة، والمنع من السفر للخارج والحرمان من حق الابتعاث، أو إكمال الدراسات العليا .
إن سريان العقوبة على عائلة وأقارب الجاني يُعد مخالفة صريحة لمبدأ سيادة القانون، وتفريطاً تاماً بمبادئ حقوق الإنسان، فضلاً عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية والنفسية ونتائجها السلبية المباشرة منها، وغير المباشرة؛ لأنها تعدّ إساءة لعائلة الجاني وأقاربه، وتسهم في تشتيت العائلة، وشعورها وشعورها بالوصمة الاجتماعية كونها منبوذة اجتماعياً، وحرمانهم من الامتيازات التي يمنحها لهم حق المواطنة كالتعينات والسفر والتملك وغيرها، فضلاً عن تدهور مستوياتهم الاقتصادية.
   ووفقاً للمعايير الدولية فالأمر يتعارض مع الأعراف، والمواثيق الدولية، ومنها الملحق الثاني الإضافي إلى اتفاقيـات جنيـف عام 1977 ، وتحديداً في المادة السادسة المتعلقـة بالمحاكمـات  الجنائية التي تنص في أحد بنودها  على : أن لا يدان أي شخص بجريمة إلا على أساس المسؤولية الجنائية الفردية، لذا فإن ما قام به نظام البعث يعدّ انتهاكا واضحا وصريحا لحق عائلة الجاني، أو المتهم، وهو يأتي ضمن سياسة العقاب الجماعي، وهذا ما يتعارض مع مبدأ دستوري جنائي، وهو مبدأ أن العقوبة شخصية وقضائية، إذ نصت المادة الثالثة والعشرون على أن ( العقوبة شخصية)،  ونصت المادة الحادية والعشرون من دستور العراق 1970 على أن: أ ـ العقوبة شخصية. ب ـ لا تجوز العقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون جريمة في أثناء اقترافه، أما الدستور العراقي (2005)، فقد نصت المادة 19 ثامنا منه على شخصية العقوبة، وهو مبدأ دستوري، وليس قانونيا فحسب، وهذا يعني أن العقوبة يجـب أن توقـع علـى مرتكب الجريمة وحده، ولا يجوز أن يتعدى ذلك إلى أفراد أسرته؛ لأنهم ليسوا شركاء معه في الفعل المنسـوب إليه، فضلاً عن كون العقوبة شخصية فإنها قضائية، أي لا يجوز فرض العقوبة إلا من قبل جهة قضائية مخولة قانونا بتطبيق القانون، من أجل ضمان حماية الأشخاص، وحقوقهم، وحرياتهم، وهذا يعنـي أن إيقاع العقاب ينحصر في المحاكم، ولا يحق لأية جهة أن تنتحل صفة القضاء، وتفصل فـي النـزاع، ويلحظ أن شمول العقوبة لعائلة الجاني وأقاربه يصدر من جهات، ومؤسسات أمنية، بعيداً عن رقابة القضاء، لكن القضاء يمتثل للأوامر الصادرة له، فيمتنع عن عقد الزواج بدون وجود الموافقات الأمنية، ويمتنع من إكمال متطلبات بعض العقود إلا بموافقات أمنية صريحة.
واختراق هذا المبدأ يُعد مخالفة لقانون العقوبات العراقي النافذ رقـم (111) لسـنة 1969 الذي نص في المادة الأولى منه على أنه (لا عقاب على فعل، أو امتناع إلا بناء على قانون يـنص علـى تجريمـه وقـت اقترافه، ولا يجوز توقيع عقوبات، أو تدابير احترازية لم ينص عليها القانون)، ومن نتائج هذا المبدأ أن القانون المكتـوب الصادر عن السلطة التشريعية هو المصدر الوحيد لقانون العقوبات، وبهذه الصفة يتميز قانون العقوبـات من بقيـة فروع القانون الأخرى كالقانون المدني، والقانون التجاري التي لاتقتصر مصادرها على القانون المكتوب ، وانما تشمل العرف والعادة وغيرها.
إن موضوع الموافقات الأمنية، وشمول العقوبة الى الأقارب حتى الدجة الرابعة أسهم بوجود تبعات اجتماعية واقتصادية ونفسية كبيرة، وأسهم في حرمان شرائح اجتماعية واسعة من امتيازات وحقوق يستحقونها؛ لذلك سيكون هذا المقال بداية لسلسلة من المقالات التي تسلط الضوء على جانب من جوانب المأساة التي خلفها نظام البعث.