انتهاكات إدارة السجون ومراكز الاحتجاز في زمن البعث – ضرب السجناء أنموذجاً
بقلم ا.د. حسين الزيادي
تواترت شهادات الشهود في أمر المحتجزين والسجناء، ممن سجنوا في زمن النظام السابق، واتفقت شهاداتهم على تعرضهم للضرب المبرح، وأنواع مختلفة من التعذيب البدني والنفسي، فقد توجهت بالسؤال للسجين (ع.هـ) الذي أكد أنه بقي في مديرية أمن الناصرية مدة شهرين بتهمة بيع المواد الغذائية لمجاهدي الأهوار، تعرض خلالها لأنواع التعذيب البدني من قبل الضباط الذين يقومون بالتحقيق، فأصيب بانحراف بالورك؛ بسبب عقوبة (الفلقة) بحسب وصفه، أما السجين (ن.م) الذي أُحتجز في دائرة أمن الناصرية، وكان حينها بعمر (35 عاما)، واستمر بقاؤه ثلاثة أشهر؛ أثر تشابه أسماء، فيقول ما إن وصلت إلى السجن حتى انهالوا عليّ ضرباً بأنابيب معدنية، أما السجين (س.خ)، الذي احتجز في عام 1998م، فيقول ما إن دخلت المركز حتى تلقيت ركلة على المثانة، وقاموا بشد قدميّ على عمود من الخشب، ورفع شرطيان العمود من كل طرف، فأصبح باطن أقدمي باتجاه السقف، وأخذوا يلسعونه ضرباً بسياطهم، وكانت الكابلات عبارة عن أسلاك معدنية من النحاس مغلفة بطبقة من البلاستك المطاط.
وتكشف هذه الشهادات وغيرها التي وصلت حدّ التواتر لتكشف عمَّا حدث في مراكز الاحتجاز التابعة لنظام البعث، بل إنّ بعض مقاطع الفيديو أظهرت بوضوح منتسبي الأجهزة الأمنية للنظام وهم ينهالون ضرباً على بعض المحتجزين، بعد أن جرّدوهم من القمصان التي تغطي الأجزاء العليا من أجسادهم.
السجن عبارة عن جزء من منظومة العدالة الجنائية، وفي الدول الديمقراطية يُرسل الجناة إلى السجن من طرف قضاة مختصين مستقلين تعينهم السلطات المدنية، ولا يجوز أن تكون السجون، ومراكز الاحتجاز بإشراف إدارة الجيش، أو الجهات الأمنية، بل يجب أن تكون لها إدارة مدنية تابعة لوزارة العدل، وأن يكون هناك فصل حقيقي بين السلطات، والذي يلحظ من خلال شهادات السجناء أن هناك جملة من الأمور تتعلق بمعاملة السجناء والمحتجزين ينبغي التوقّف عندها، والتحري عنها، وعليه فإن انتهاكات السجون في زمن البعث تتمثل بالآتي:
1- الشخص القائم بالتحقيق: أكد السجناء أن من يقوم بالتحقيق معهم هم ضباط الأجهزة الأمنية، وهو أمر يؤكد أن القائمين بالتحقيق ليسوا من المختصين، وهم يدينون بالولاء للنظام، ويميلون إلى استعمال القوة في انتزاع الاعترافات.
2- العقوبة البدنية للسجين أو المحتجز: وهذه العقوبات محرّمة بموجب الوثيقة الدولية الأولى الملزمة لمناهضة التعذيب؛ وهي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي صادق عليها العراق، فضلاً عن المواثيق الأخرى.
3- لا يسمح بحضور المحامين أثناء الاستجوابات، وهو أمر يتنافى وقواعد المحاكمة العادلة التي أقرّها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وصادق عليها العراق، علماً أنّ القواعد الدنيا النموذجية لمعاملة السجناء والمحتجزين توصى بضمان حق المتهم بالاستعانة بمحامٍ.
4- أكدت شهادات السجناء والمحتجزين أن الضرب يجري بشكل يومي وممنهج، وكانت هناك تسميات تطلق على الضباط الذين يتناوبون على ضرب المحتجزين، فهناك محمد الشفل، وأحمد طلقة، وبرزان فلقة، غيرهم، من الذين ينتمون لدائرة أمن الناصرية، وكان الضرب يجري بشكل منفرد وجماعي، حيث يتم حصر السجناء في زاوية السجن، فتنهال عليهم الضربات من كل مكان.
5- لم تكن هناك معايير لمقدار القوة المستعملة، فالسجناء الذين تمت مقابلتهم أكدوا أنهم تعرضوا للضرب العشوائي، فكانت الضربات تأتي على الرأس، أو أجزاء البدن الأخرى من دون تمييز، وهو أمر يتعارض والإطار القانوني لإدارة السجون، ومراكز الاحتجاز.
6- لم تكن هناك تحذيرات أو إنذارات كإجراء سابق لاستعمال القوة، بل إن استعمال القوة كان يجري بحسب مزاج بعض الضباط ورغبتهم.
7- لم يكن هناك وقت معين لاستعمال العقوبة البدنية ضد السجين أو المحتجز، فقد روى السجين (ص)، أن بعض الضباط كانوا يسكنون في غرف خاصة ضمن مراكز الاعتقال؛ لأنهم من محافظات بعيدة، وهؤلاء كانوا يمارسون العقوبة البدنية بأي وقت يشاؤون خلال ساعات الليل.
8- أين يقع الضرب: أكد جميع السجناء ممن تمت مقابلتهم أن الضرب لا يتحدد في مكان معين من الجسم، فهو عادة يتم بشكل عشوائي، حيث يتم حجز السجين أو المتهم في غرفة معدة لهذا الغرض، وينهال عليه ضابط أو مجموعة من الضباط بالضرب المبرّح، وربما تكون عملية الضرب جماعية لأكثر من سجين أو متهم، وفي كثير من الأحيان يؤدي ذلك إلى حدوث عاهة مستديمة لبعض المحتجزين.
9- توفير وسائل الاتصال مع الأهل: عند احتجاز أي شخص من قبل الجهات الأمنية لنظام البعث لا يتم إخبار ذويه، بل يتم منع أي اتصال له بالعالم الخارجي، وهو أمر يتعارض والمعايير الدولية، والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء والمحتجزين التي أوصى بها مؤتمر الأمم المتحدة الأول؛ لمنع الجريمة المعقود في جنيف عام 1955، ضمن المادة (37) التي تنصّ على السماح للسجين والمحتجز بالاتصال بأسرته وأصدقائه وتلقي الزيارات.
10-الإشراف القضائي على المحتجزين: لا وجود للإشراف القضائي في مرحلة التحقيق، ولا وجود لتدخل الادعاء العام، على الرغم من أن الأخير هو المسؤول عن إثبات الجريمة، لكن الواقع أن الادعاء العام قد غُيِّب أثره؛ لأنه أصبح خاضعاً للأجهزة الأمنية.
وتأسيساً على ما تقدم فإن السجون، ومراكز الاحتجاز في العراق إبان حكم نظام البعث، ووفقاً لشهادات الشهود؛ كانت بعيدة كل البعد عن المعايير الدولية الخاصة بالتعامل مع السجناء والموقوفين، فجريمة التعذيب من الجرائم المحرّمة على الصعيد الدولي بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فضلاً عن تعارضها والمعايير الدولية المتعلّقة بمسألة الاحتجاز، والصادرة عن الأمم المتحدة – المفوضية السامية لحقوق الإنسان التي تنص على: عدم جواز إخضاع أي شخص يتعرض لأي شكل من أشكال الاحتجاز، أو السجن؛ للتعذيب، أو للمعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المُهينة، ولا يجوز التذرّع بأي ظرف من الظروف؛ مسوغاً للتعذيب، أو غيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة، وأن تلك الأفعال تتنافى والمبادئ والقواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء لعام (1957)م، والمبادئ الخاصة بحماية السجناء لعام (1988)م، ومدونة السلوك لمأموري الضبط القضائي (1979)م، والمبادئ الأساسية لاستعمال القوة، والأسلحة النارية لعام (1990)، والمعاهدات والاتفاقيات جميعًا ذات الصلة.
أما على مستوى المعايير الوطنية؛ فتضمن قانون العقوبات العراقي رقم (111)، لسنة (1969)م، المادة (333) فقرة تنص على : الحكم بالحبس، أو السجن كل موظف، أو مكلف بخدمة عامة عذب، أو أمر بتعذيب متهم، أو شاهد، أو خبير؛ لحمله على الاعتراف بجريمة، أو للأدلاء بأقوال، أو معلومات بشأنها، أو لكتمان أمر من الأمور، أو لإعطاء رأي معين بشأنها، ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة، أو التهديد، وجاء أيضاً في المادة (117) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم (23) لسنة (1971) المعدل عدم جواز استعمال وسائل غير مشروعة للحصول على إقرار المتهم، وليس شرطاً أن يكون التعذيب على جسم المجني عليه فقط، طالما أن التعذيب هو ضغط مادي، أو معنوي على إرادة المجني عليه، ولم يحدد المشرِّع العراقي طرقاً معينة متطورة، أو وسيلة حديثة للتعذيب، ولا عبرة بالوسيلة المستخدمة في ارتكاب جريمة التعذيب، ما لم يرسم القانون طريقة بعينها، واشترطت المادة (218) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة (1971) المعدل أن يكون الاعتراف صادراً عن إرادة حرة، وأن لا يكون تحت تأثير الإكراه، أو التهديد، أو الوعيد، وأن الاعتراف الذي ينتزع بالقوة؛ هو اعتراف غير مشروع، وأنه عند انتزاع اعتراف المتهم بالإكراه بأي صورة تؤثر في المتهم جسدياً، أو نفسياً، تنقض المسؤولية الجزائية ضد الجاني.
وفي ضوء ما تقدم يتضح أن سجون النظام، ومراكز الاحتجاز بعيدة كل البعد عن المعايير الدولية والمحلية، وبالرجوع لسنة (2001)، وقراءة تقرير منظمة العفو الدولية نجد الشواهد التي كانت تحدث في سجون نظام البعث، وبتفاصيل دقيقة، فقد ورد في تقاريرها: تعصب عيون المعتقلين، ويتم تجريدهم من ملابسهم، وتعليقهم من أرسغتهم في أوضاع قاسية ملتوية لساعات عدة؛ وكانوا يتعرضون للصعق الكهربائي في أعضائهم التناسلية، وآذانهم، وألسنتهم، وأصابعهم ويتعرضون للضرب على باطني القدمين (الفلقة)، والجلد، والضرب بعصا الخيزران، والخراطيم، والقضبان المعدنية، ويتعرضون للحرق بأعقاب السجائر، أو ثقب أيديهم بالحفار الكهربائي، أو نزع أظافر أقدامهم، أو أيديهم.
أما موقف قانون (١٩٦٩)، وعلى الرغم من أنه قد ميز السجناء السياسيين من غيرهم، إلا أن التطبيق الفعلي يناقض القانون تماماً، ومن جملة ما نص عليه قانون (1969) في المواد (58- 68) عدم جواز فرض العقوبات التأديبية على السجناء السياسيين، وعدم خضوعهم لعملية التصنيف، فضلاً عن تخصيص مكان خاص بهم، تتوافر فيه الشروط الصحية من حيث النظافة، والتهوية، والإضاءة، ولا يحمل السجناء السياسيون لوحات على صدورهم؛ لبيان رقمهم وهويتهم، ولا يُلزمون بحلق شعرهم إلا لأسباب صحية، وبتوجيه من الطبيب، وللسجين السياسي، أو الموقوف السياسي أن يراسل من يشاء، ويتسلم الرسائل، وله حق مطالعة الصحف، والمجلات، والكتب المسموح تداولها، ووجوب الاستماع إلى دفاعه، وعلى الرغم مما تضمنه قانون (1969) إلا أن الملاحظ أن التعامل مع السجين السياسي اتسم بالقسوة المفرطة؛ بل هو تعامل أكثر حدة، وضرر من السجناء الآخرين.