banarlogo

النّوم في معتقلات صدام حسين

النّوم في معتقلات صدام حسين

 

محمّد صادق الهاشميّ

 

 

لقد تكرر مفردةُ «النّوم» في القرآنِ الكريمِ «9» مرّات بمناسباتٍ مختلفةٍ، ولكنّ الذي لفتَ نظري كثيراً قولُه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنّهَارِ}؛ لأنّ الذي أفهمه أنَّ اللهَ لا يقولُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ} إلّا في كلّ موطنٍ يريدُ التّنبيهَ على عظمةٍ، وهذه العظمةُ قد تكونُ بلحاظ أنّ حياةَ الموجودِ الحيّ قائمةٌ به، بحيث لولاه لما كان هناك استمرارٌ لحياته، فهو ضرورة بالنّسبة إليه في مرحلة بقائه.

ويبدو أنّ النومَ من هذا القبيل، فلقد بات معروفاً مّا للنّوم من دورٍ مهمّ في حياة الكائنات الحيّة، حتّى حرص أطباءُ علم النّفس دوماً على تنظيمِ نومِ مرضاهم بصورته الطّبيعية حفاظاً على حالة التّوازن النّفسي للمرضى، فالذين لا يتمتّعون بنومٍ طبيعيٍّ تراهم مصابين بالقلق، والاضطراب، والكآبة، والخوف.

ومن هذا المنطلق يبدو أنّ الجلّادين في عهد صدام حسين قد درسوا جيّداً الآثار السّيئة لعدم النّوم، ففي غرفةٍ صغيرةٍ – لا تتجاوزُ الأمتارَ – متعفّنةٍ، لا شيءَ تحتنا إلّا أرض الغرفة الرّطبة، ولا يوجد فيها أيُّ منفذٍ، ولا شباك إلّا باباً حديديّاً موصداً، ومن بين مساماته فواصل يصلنا شيءٌ من الهواء لا يكفينا للتّنفّس، ومن ضمن الزّنزانة هذه دورةُ مياهٍ لا منافذ لها، ويُفتح بابُها على المعتقلين، ونحنُ غارقون في بحر التّعرّق، فالعرقُ يسيلُ منّا صيفاً وشتاءً، وعليك أنْ تتصوّر رائحةَ تلك الزّنزانةِ مع هذه الأعداد من المعتقلين.

وكثيرٌ منّا كانوا جرحى قد أخذتْ سياطُ الجلّادين في أجسادِهم أخاديدَ، وجروحُهم تنزفُ دماً وقيحاً، والخوفُ محيطٌ بنا يهددُنا، ننتظرُ الحكمَ بالإعدام «شنقا حتّى الموت» بين لحظةٍ وضُحاها.

واليوم حينما أتذكرُها لا أكادُ أُصدّق كيف عشنا فيها، ولا أصدق أنّ شمعاتِ شبابِنا قد ذوت هناك، وأنّ فيها قد انقضى ريعانُ أعمارنا.

 وفي هذا المحجرِ – «الزّنزانة» – الصّغير ينامُ ثلاثون وأقلّ، أو أكثر – حسب ظروف الإعدام فقد يأخذون منّا لمقاصل الإعدام عدداً فيقلّ عددُنا، وقد يضيفون لأعدادنا عدداً – وهكذا.

 هل تصوّرت – قارئي العزيز – كيف يمكن أنْ ينامَ هذا العددُ في هذه الزّنزانة العارية من كلّ فراش، أرضُها حجريّةٌ صخريّةٌ قاسيةٌ متّسخةٌ، وهل سألتّ نفسَك: كيف يستوعبُ هذا المكانُ كلَّ هذا العددِ، وفي هذا الحرِّ الشّديدِ ؟، نعم هو حقيقةٌ قد لا تصدّقها.

لقد ابتكرنا – المعتقلين – للنّوم الذي لا غنى لنا عنه، طرقاً:

  1. أنّ قسماً منّا ينامُ، ويبقى قسمٌ أخر واقفاً بين الصّفوف إلى منتصف اللّيل، وهكذا، نتبادل الأدوار، وفي بعض الأحيان بسبب الإرهاق قد يغطّ الكلّ في نومٍ عميقٍ، فلا ينهضون ليبادلوا الوجبة المنتظِرة. ولا أنسى روح الأخوّة بيننا، فكان من حنان الأخوّة أنّ الباقين واقفين قيد الانتظار يبقون يحرّكون ثيابهم، لعلّهم يخففون شيئاً من حرّ الزّنزانة القاتل عن إخوانهم النّائمين، «يهفّون علينا لعلّنا نسعدُ بنسمةِ هواءٍ».

  1. أنّ البعض منّا ينام جالساً في دورة المياه حسب الدّور، وحسب التّضحية التّي يتبرّع بها المعتقلون بأمكنتهم لبعض إخوانهم المرضى أو الجرحى.

  1. في النّهار ينام الجميعُ جلوساً «القرفصاء»، ويُلقي الله تعالى علينا ما ألقى على البدريين {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا}، وهذا النّوم الأمنة من أسرار لطف الله بنا.

ولا يفوتني هنا أنْ أقف وقفة إجلالٍ لأسجّل فيها ذكرى الأستاذ الكبير «عبد العظيم» من أهالي النّاصرية، وقد قال لي يوماً: «إنّه يعمل قاضياً في محافظة السّماوة»، كان جريحاً جروحاً بالغةً من شدّة التّعذيب الذي وقع عليه في رجليه ويديه، وقد كسروا أضلاعه، فكيف يمكن لهذا الرّجل المريض أنْ ينام جالساً، وهو لا يتمكّن من النّوم حتّى مستلقياً؟!

 كانت حيرتُنا به كبيرةً، بل كنّا لا نعرف كيف نوصله إلى دورة المياه لكثرة جراحاته، وكنّا نطهّره إذا ذهب إلى دورة المياه، لأنّه عاجرٌ تماماً عن أنْ يحرّك يديه، وكانت أعظم مصيبته حينما يحينُ وقت الصّلاة، كيف يصلّي؟

وفي يومٍ كنتُ أطهّره من بولٍ رأيتُ شيئاً ملتصقاً متناثراً على أعضائه التّناسليّة، اعتقدت حينها أنّها بقايا من مادّةٍ سامّةٍ ؛ ويشهد لذلك أنّ الرّجل بدأ جسده ينتفخ ويتورّم شيئاً فشيئاً، وكان رغم مرضه وتعذيب الجلّادين صبوراً، يردد على مسامعنا:

صياماً حتّى يفطرَ السّيفُ بالدّم وصمتاً حتّى يصدحَ الحقُّ يا فمي.

كان بحقّ رجلا محتسباً ذلك عند الله، شجاعاً صامداً.

وازدادت…