banarlogo

النصب التذكارية في العراق الواقع والدلالات

النصب التذكارية في العراق الواقع والدلالات

د. أحمد الجراح

 

 

 

تعكسُ النّصبُ التّذكاريةُ ثقافةَ وحضارةَ المجتمعات، إذ تدلُّ على تأريخِ البلدانِ ومسيرتِها عبر تخليد رموزهِ وقضاياه العامّة كصورةٍ حيّةٍ تستنهضُ في نفوسِ الأجيالِ المفاخرَ والتربيةَ نحو الاقتداءِ بتلك المحطاتِ والقاماتِ التأريخيّةِ لتعكسَ واقعَ البلد وحضارته وإحيائها كذاكرةٍ وطنيّةٍ تنمي الشعورَ بالمسؤوليّة والحثّ على الاستفادة منها في صناعة المستقبل لأبنائه.

العراق بلدٌ عريقٌ بثقافتِهِ وتأريخِهِ القديم ، وما مرَّ به من أدوارٍ وأحداثٍ لم تجد النّورَ في معالم بارزة تكون محط اعتزاز لمواطنيه أولاً ومن ثَمَّ التعريف به أمام السّائحين الأجانب، والملاحظ أنَّ هذه المعالمَ مع كثرتها لكنها ليست مؤهلة بالشكل المناسب لتكونَ مصدرَ استقطاب، مع عدم توفر المتاحف العامة وأماكن التوثيق في المؤسسات المعنية التي تعكسُ تأريخ المعالم والشخصيات والأحداث، بل العكس من ذلك توفّرت ولحقب زمنية مختلفة الاهتمام بنشر النصب التذكارية لدكتاتور البعث وعلى شكل لوحات وتماثيل كبيرة في أماكن عديدة لتكون ذات دلالات استبدادية وعاكسة لثقافة الهيمنة والسيطرة التي كان يمارسها على أرواح الناس ومقدراتهم، كما يلاحظ طباعة الصور على العملات أيضاً والطوابع البريدية واستخدام العبارات والشعارات في الشوارع والمرافق العامة التي كرَّست التمجيد به وبحروبه العدوانية، والبرامج التلفزيونية التي تبرز هذه المشاهد لإشاعتها كثقافة وفرض قبولها أمام الجميع.

ولم يشهد هذا الواقع تطوراً بعد عام 2003 وزوال الطغمة البعثية من العراق، بل بقي الحال على ما هو عليه بعد أن تمَّ اسقاط هذه النصب ورفع الصور والشعارات، لكن واقع الأبنية والمتاحف والنصب التذكارية بقي طي الإهمال ولم يلتفت له ليعكس واقعاً جديداً يتجه نحو إحياء تراثه ورموزه الوطنية الحقيقة، واقتصر الأمر في الظاهر على اللواحات والإعلانات التي مثّلت صورة لا تستبعد كونها آنية خالية من التخطيط والرؤية التي تعكسُ الثقافة والمتطلبات الاجتماعية المعاصرة، لاسيما وإن المجتمع العراقي تعرّض لموجات ثقافيّة متنوعة بعد الانفتاح وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي، ومن أجل التركيز على بناء  الهوية للفرد، كان لا بد أن توضع ضمن الأوليات الوطنية والحكومية في تنفيذ البرامج الخاصة بذلك.

إنَّ طبيعة المخاطر والأوضاع في العراق لم تكن مبرراً أمام الشروع باتجاه تعزيز الهوية العراقية من خلال النظر بإنشاء المعالم الخاصة التي تعكسُ على الأقل الواقعَ المريرَ الذي كان يعيشه العراقيّون قبل عام 2003 والتي شهدت القتلَ والقمعَ والتهجيرَ وغيرها من الجرائم المرتكبة كما حدث من قبيل المقابر الجماعية التي اكتشفت ولا زالت تكتشف فلم تُحدد كشواهد أو تقام فيها نصب دالة عليها، ومثلها المعتقلات والسجون، وكذلك القصور العديدة المنتشرة في المحافظات العراقية لتبين استبداد الطاغية ودكتاتورية حكمه.

بل العكس فإنَّ واقع الإهمال ذو دلالة خطرة كونه يتجه نحو إخفاء تلك الجرائم والحقبة الزمنية التي مرَّ بها العراق، وتنشأ الأهمية من الإحياء لمنع تكرار الجريمة وخلق ثقافة تنبذ العنف والقمع كسلوك وسياسية تنشأ ويبنى عليه تربوياً وثقافياً.

مع أنَّ الواقعَ ينبغي أن يوضع ضمن حساب المؤسسات الحكومية وغيرها ضمن الأهمية أن تحفظ كل جهة أرشيفها من خلال متحف خاص بها والعناية برموزها وكوادرها التي أسهمت بتطوير وتحقيق المكاسب للجهة نفسها، وهو ملاحظ في العراق أيضاً ولكنه لا يعدو أن يكون متفرقاً ومحدوداً، كما هو ظاهر في بعض الجامعات مثلاً.

مع أن مسائل التخليد وإحياء التراث وإشاعة الثقافة وبناء الهوية مسؤولية جماعية وإن اختصت به بعض الجهات بشكل أو بآخر ضمن قوانينها باختصاصات معينة، ولكن بالشكل العام الكل معني لأهمية الموضوع والقيمة الحضارية المترتبة على ذلك.

ينبغي التخطيط بالواقع العراقي ليعكس ثقافة مدنه والطابع التأريخي فيها، من خلال الرمزيات المتوفرة فيها كالدينية والعلمية مثلاً والشخصيات العظيمة والمضحية لينشئ جيلٌ ذو ذاكرة صلبة بالعطاء مما ورثه من تلك المعالم والنصب الحاكية عن عظمة تأريخه وأبناء بلده، نحن أمام تحد ثقافي كبير وأكثر من ذلك هجمات لمصادرة الهوية لا تقل خطورة عن الحروب، ينبغي أن يصل الصوت عاليًا لوضع الموازنات المناسبة والتفكير بالمسؤولية الحقيقية لصدها، أمثال بناء متاحف مناسبة في المدن، وإنشائها أيضاً في الجامعات والمؤسسات الأخرى المعنية كالثقافة والبلديات ومؤسسات العدالة الانتقالية وأهمها دعم مؤسستي الشهداء والسجناء السياسيين في مجال إبراز الفترة المظلمة.

مع أن الحديث في النصب هو حديث عن فن وثقافة وإبراز معالم ، لكن التركيز على المسؤولية الملقاة على المعنيين في إحيائها له الأهمية الكبرى في الوقت الحالي،  والحديث في ذلك يبتعد عن فن ومراعاة قواعده من أجل تجنب الابتذال مثلاً والإساءة في إنشائها، لنصل بذلك إلى تأكيد أهمية التفكير الواقعي والمباشرة بالأعمال المناسبة مع ما تقدم من دلالات للنصب التذكارية كمعالم للبلد.