سبايكر …. وضياع القيم الإنسانية!
م.م محمد الخزاعي
جامعة الكوفة / كلية العلوم
يجمعُ المؤرخون أنَّ للعربيّ قيماً وشيماً اشتهر بها ،وحافظ عليها وتوارثها على مر العصورِ، أهمّها مكارم الأخلاق، وإكرام الضيف، والفراسة، والعفو عند المقدرة، والشهامة، والمروءة ، وهي من الصفات القلائل التي ثبّتها الإسلامُ ، وأكّدها الرسول الكريم “صلى اللهُ عليه وآله”، فكانت المروءةُ والحياءُ أصلاً مؤصلاً في المجتمعِ العربيِّ في رجالِهِ ونسائِهِ وصغارِهِ وكبارِهِ ، إلا أنَّ أهمَّ صفةٍ تغنّى بها العربيُّ وافتخرَ بها على الأُمم الأخرى هي إجارةُ الدخيل ، والدخيل هو من يلجأُ إلى من يدخل عليه طالباً حمايتَهُ ، العربية ليس ذلك فحسب، بل يتباهى العربُ بحماية الدخيل، وللدخالة قواعدُ معروفةٌ عند العشائر ، فتعدُّ من الشّهامةِ العربيّةِ التي من مقتضياتها أن يحميَ الدخيلَ مهما كلفت حمايتُهُ من بذلِ الأموالِ والأنفسِ ،فلو التجأَ إنسانٌ وإن كانت مذنبًا إلى بيتِ أحدٍ طَلَبَ حمايتَهُ ،يتوجّبُ على صاحبِ البيتِ أن يحميَهُ بكلِّ ما أوتي من قوةٍ، فإذا حاولَ أحدٌ اقتحامَ حرمةِ البيتِ لأخذ الدخيل فإنَّ مجردَ ظهورِ أيِّ فردٍ من سكان ذلك البيت ولو كانَ امرأةً ورمت وتداً من أوتادهِ عند الباب ،يكفي في إيقاف من يحاولُ اقتحام البيت في مكانه ولا يتعداه، وإنَّ مجردَ اجتيازِ البقعةِ التي سَقَطَ فيها الوتدُ يعدُّ خرقاً لحرمةِ بيت المُجير ، وهو ما لا ترضاه العربُ.
وهذا كان سائداً حتى في الجاهلية حين لا دينَ ، ولا موانعَ شرعية ، ولكن الشيء الأكثر غرابة حين نسترجعُ اليومَ ذاكرتنَا إلى قبلِ تسع سنوات تحديداً ، في منطقة عشائرية قبلية يُفترض أنّها تتسمُ بشيء من تلكَ الصّفات احتاجَ أكثرُ من(2500) شابّاً جنوبياً أعزلاً خرج من قاعدة سبايكر قاصداً حضن أمه أو شمّ نحر ابنه ، أو تقبيل رأس أبيه ، أن يُجارَ حينَ ظنَّ أنَّ بيوتَ شيوخِ تلك العشائر مأمنٌ له من ملاحقةِ حفنة ممن تقيّأهم الدهرُ ، فأصبحوا وحوشاً تأكلُ لحم البشر ، وتهدمُ شرع الله.
فمن يطلع على “الموسوعة الوثائقية لمجزرة سبايكر” وما حوته من وثائقَ تكشفُ كثيراً من الحقائقِ ، ومن ضمنها ما تحدّثَ به الناجونَ من هذه المجزرة الذين ذكروا كيفَ أنَّ العشائرَ اجتمعت على توزيعِ الحصصِ فيما بينهم بالتساوي ، فيكون لكلِّ عشيرةٍ نصيبٌ من أولادنا يساوي مقدار حقدهم ، وطائفيتهم عليهم ،أولادنا الذين استجاروا بهم ظنّاً منهم أنهم عربٌ أو مسلمون كما يدعون فيجيرونَ الدخيل.
فلم يكن كيانُ داعش الإرهابي ، المجرم الوحيد في قتل ضحايا سبايكر ، بل كان لبعضِ عشائر تكريت نصيبٌ من الإجرامِ فيهم ، فعلى الرّغم من الأدلةِ المنطقيةِ التي تؤكدُ أن لا يمكنُ أن يهيمنَ كيان داعش المتطرف على أراضٍ واسعة في محيط القاعدة دون أن تكونَ هناك حاضنةٌ مجتمعية مهّدت الأمر لدخولهم ، واشتركت الجُرم مع بنادقهم، فإنَّ كثيرًا من الوثائق والشهادات ، والإفادات تؤكد الدورَ الكبيرَ الذي قامت به تلك العشائر ، وأبناؤها في تنفيذ هذه المجزرة الأليمة.
وهو أمر يُحار العقلُ في وصفِهِ ، و وصمةُ عارٍ في جبينِهم تتذكرهُ الأجيالُ فالأجيال ، حين وقفت شيوخ بعض العشائر وأبنائها ونسائها تنحرُ الإنسانيةَ قبلَ الإنسانِ ، والإسلامَ قبل الأعناقِ في واحدةٍ من أبشعِ الجرائمِ المُرتكبةِ بحقِّ الأبرياء والتي كشفت عن زيفِ ما تدعي به تلك العشائر من عروبةٍ ودينٍ وتديّن.
التأريخُ لن يرحمَ أحدًا ، ولا يمكنُ أن تُزيّفَ الحقائقُ التي ضحّى من أجلِها مئات الآلاف ، مجزرةُ سبايكر لم تنته بإعدامِ عددٍ من المتورطين فيها ، بل أنَّ هناك فكرًا ، و همجيّةً تتكون من هجين غير متجانس يحملُ حقدًا دفيناً توارثه من الأجداد ، ينبغي أن يقابلَه جهدٌ أمنيٍّ وفكريٍّ يجتثه من كبار القوم وصغارهم ؛لينعم العراقيون بحياةٍ تخلو من التطرّف والإرهاب.