banarlogo

في يوم المقابر الجماعية

في يوم المقابر الجماعية

 د. عطور الموسوي

 

 

 

2003 هو عام سقوط الطاغية وعصابته وفي ظهيرة يوم من أيام آيار تابعت برنامج (من العراق) وقد بُثَّ من فضائية العربية آنذاك بحلقات يومية تظهر وجهاً من سلطة البعث وقمع صدام، مدعمة بأفلام فيديو ومقابلات وقد أبدع فيه الإعلامي اللبناني المسيحي ايلينا كوزي.

ظهرت على الشاشة صورٌ لمقابرَ جماعيةٍ تحت شمس الظهيرة وبضع من الأشخاص المدنيين ينتشرون بين الرمال التي لاحت منها أشياء غير معروفة داكنة ومتربة ومتهرئة، بينما تواجدت عدد من النساء الثكالى بعباءتهن السوداء التي أضحت رملية هي الأخرى يلطمن ويهلن على رؤسهن التراب.. تسمرت عيناي وخارت قواي وأنا أُدقق النظر في هذه المشاهد الحية المرعبة، حيث ركّزت الكاميرات على مجموعة رفات لأناس يكاد يتكدس بعضهم على بعض ، رجال منهم يرتدي دشداشة ومنهم بنطالا ومنهم شبه عارٍ كلهم مرميين على وجوههم بين طيات الرمال، أدقق النظر وعيناي تهطلان دموعا وبفعل لا أرادي أذهل أطفالي أخذت اضرب على رجليّ وأنوح : ” يا يابه يابه .. لعنة الله على صدام .. لعنة الله على صدام ” وإذا بمشهد هزّ كياني كله وبقي ماثلا لهذه اللحظة في ذاكرتي، لفتاة شابة قدرت عمرها أقل من عشرين عاما ملقية هي الأخرى على وجهها وظهرت ضفيرة شعرها الجميلة لمنتصف ظهرها بوضوح ويداها مكبلتان ككل من أظهرته الصور إلى ظهورهم والعينان معصوبتان !! التراب جعل ضفيرتها تبدو شقراء، والجثة كانت كاملة بلحمها وعظمها وكأنهم شهداء سنوات الانتفاضة الشعبانية وما بعدها .. من هي يا ترى ؟!وهل المرأة التي في نفس الحفرة أمها أم أختها !؟ كانت الشابة الحسراء الوحيدة في كم المغدورين الظاهرين في مدينة المحاويل بابل، حيث اكتشفت أول مقبرة جماعية حضرها الحاكم المدني بول بريمر وكتب عنها في مذكراته عن جمجمة طفل صغير ما زال الشعر ماثل فيها قد احتضنتها امرأة تلثمها بجزع وعويل !! نعم لم تتوقف مقاصل المجرم صدام طيلة حقبة حكمه الأسود وبطرائق موت لم نكن نتوقعها ونحن الذين عشنا كل محنتها وفقدنا الأحبة في ربيع أعمارهم .. ظلت عياناي تبحث عن أخوتي في تلك الشاشة الصماء واعتقدت للحظة إني سأحظى برؤية وجه أحدهم بعد أكثر من عشرين سنة من فراق مرير، نعم رضيت أن أرى ولو جثثهم لتستقر روحي وتذهب عني احتمالات موتهم وآلياته التي ما فارقتني منذ لحظة اعتقالهم . حينها تخيلت وضع والدتي إن علمت أن لا رجعة لهم، وهي التي تأملت كثيرا وجودهم في الحياة وجمعت لهم كل جميل ونفيس كأي أم تجهز ولدها للزفاف، كانت تقول كما حفظ الله نبيه يونس في بطن الحوت وسلم ّ يوسف من قعر البئر سيعيدهما لي .. ما الذي سأخبرها إن رأيت الجثامين، وهي ترنو عودتهما عند كل عفو شكلي يصدره جلادنا القابع على كرسي استبداده بكل ما للقسوة من معنى، بينما دموع الأمهات قد قرحت الأجفان ومنسوب الأمل واليأس يتناوبان على قلوبهن الفجيعة، الكل يدعو بالخلاص والفرج، وإذا بالفرج يأتي وقد رحل الأحبة إلى بارئهم وبكيفيات ما زلنا نجهلها، فالمجرم صدام وعصابته أمعنوا في أذانا عندما غيبوهم لتكون الصدمة أكبر ووقعها أشد . لم نجد إلا أسماءً أخذت تسلسلا في مئات الآلاف من بني الثكالى لنتعزى بأننا لسنا وحدنا .. وقديما قيل : إذا عمّت هانت . ولا عزاء أكرم من أنهم شهداء أبرار، عملوا بما يرضي الله وواصلوا ليلهم بنهارهم ليعبروا عن أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر ، وكم كان الجزاء وحشيا لهذه الكلمة من قبل فرعون العراق.