banarlogo

الذاكرة والنسيان في بناء السلام

الذاكرة والنسيان في بناء السلام

الدكتور محمد القريشي

 

 

بشكلٍ عامٍّ، تميّز الأحداث وطريقة تذكرها لدى الشعوب طبيعة الذاكرة الجمعية لتلك الشعوب. فالأمريكيون يتذكرون أحداث (الحادي عشر من سبتمبر) و(حرب فيتنام) وانسحابهم السريع من أفغانستان وغزو العراق، ويتذكّر الفرنسيون أحداث الثورة الفرنسية وحرب الجزائر، ولا ينسى العرب هزيمة سنة (67)، ويردّد العراقيون ذاكرات ثورة العشرين وغزو الكويت وأحداث الفرهود في عام 1941، وسقوط صدام وسقوط مدن غربية وشمالية بيد داعش. ويعتبر الجزائريون حرب استقلال بلدهم من فرنسا جزءاً هامّاً من هويتهم الوطنية، وإن حرباً أخرى قد اندلعت بعد الاستقلال تخصّ حرب الذاكرات، حيث يستعمل كلّ طرف رؤيته للذاكرة من خلال التضخيم أو الاختزال أو النسيان بهدف تأكيد شرعية موقفه وما يترتّب على ذلك من التزامات.

وعلى مستوياتٍ أدنى، تتذكّر الأُسر تأريخها أو أحداثها أو مهن أجدادها أو أماكن تواجدها. وقد تحدّد تلك الذكريات هويات تلك الأسر داخل المجتمع، كأُسرة الجواهري – على سبيل المثال – التي اكتسبت هويّتها الخاصّة نسبةً إلى كتاب “جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام” الذي ألّفه أحد أجداد الأُسرة، وهو الشيخ محمد حسن النجفي، أو أسرة الدباغ نسبة إلى المهنة.

وكما أنّ التذكّر الجمعي قائمٌ ومطلوبٌ للجماعة، فإنَّ النسيان الجمعي ملازمٌ لعملية التذكّر ومطلوبٌ في كثيرٍ من الأحيان.. الموازنة بين التذكّر المطلوب والنسيان المطلوب مهمة لبناء المجتمعات.

يقول بول ريكور: (سأبقى قلقاً لوجود كثرةٍ في الذاكرة هنا، وكثرةٍ في النسيان هناك، فيما يتعلّق بتمجيد الذاكرة واستغلالها والنسيان) . ويسجّل دافيد بريف ملاحظاته السلبية حول الذاكرة الجمعية للمجتمعات الخارجة من الصراعات، وأهمّها تأثّر تلك الذاكرة بعقلية المنتصر.

ويرى (دافيد رييف) أنّ التذكّر يمثّل عملية بناءٍ اجتماعيٍّ تعتمد سياقاتها على جذور الأزمة والبيئة الثقافية، ويضرب في هذا المجال مثلاً (الحالة الإيرلندية) حين خيّمت ثقافة الذاكرة على أجواء بناء الأُمّة. وفي سياق ما ذهب إليه (آرنيست رينان) حول دور النسيان كعاملٍ أساسٍ من عوامل بناء الأُمّة، يرى (بييف) كذلك بأنّ الذاكرة الجمعية وصناعة الرمزيات يجب أن تلبّيا حاجة الأمن وتتبعا سيرورةً قلقةً خاضعةً لتطوّراتٍ وتفاهماتٍ.

وكنماذج للجهود المبذولة في مجال مصالحة الذاكرات من قبل النُّخب السياسية خلال الأوقات الانتقالية، نشير إلى مشروع وزير الدفاع الأسباني جوزية لويس رودريغييز زاباتيرو بتنظيم استعراضٍ لمحاربين قدماء من الجيش الجمهوري الأسباني إلى جانب متطوعين قدماء حاربوا مع الجيش النازي ضدّ روسيا، وهي محاولةٌ لترميم الذاكرة من خلال المواءمة بين ذاكرة عهد فرانكو مع ذاكرة العهد الديموقراطي الجديد.

وفي مجال إصلاح الذاكرة المشتركة بين المانيا وفرنسا بعد الحربين الأولى والثانية، تستذكرُ نخبُ البلدين قصّة اللقاء التاريخي بين الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران مع نظيره المستشار الألماني هيلموت كول في عام 1984، حيث جرت العادة أن تحتفل فرنسا سنوياً في السادس من شهر آب بنزول قوّات الحلفاء على أرضها في ساحل النورمندي لبدء عمليات التحرير من الاحتلال الألماني النازي، وقد تجنّب الرئيس الفرنسي ميتيران دعوة المستشار كول في عام ١٩٨٤ لحضور هذه المناسبة؛ لأنّها تذكّر بخسارة ألمانيا التي تمثّل جرحاً وطنياً كامناً في وعي الشعب الألماني. ومن أجل صنع مناسبةٍ موازنةٍ لكلا الشعبين من النواحي النفسية والتاريخية ولإصلاح الذاكرة، فكّر المستشار الألماني بتنظيم لقاءٍ مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران في موقع معركة فيردان التي حدثت في الحرب العالمية الأُولى عام ١٩١٦ ودامت ٣٠٠ يوماً، وراح ضحيتها حوالي ٣٠٠ قتيل و٤٠٠ فقيد من الجانبين الفرنسي والألماني. وخلال لحظات استذكار ضحايا الجانبين وعزف النشيدين الوطنيين تباعاً، بادر الرئيس الفرنسي ميتران بمسك يد نظيره الألماني طيلة فترة الاستذكار. وقد بقت منذ ذلك اليوم، صورة لقاء أعداء الأمس وأصدقاء اليوم عالقةً في أذهان شعوب أوروبا، ومؤثّرةً في ترميم ذاكرة الشعبين الموسومة بالحروب والآلام.

وتعدُّ عمليات محو الذاكرة الجمعية – بسبب الإهمال أو ضعف الوعي أو التخطيط المقصود – من أهمّ ما يميّز المجتمعات التي تعاني من صراعات الهوية. وهو ما يدفع تلك المجتمعات إلى أن تشقّ مسيراتها نحو المستقبل وهي تحمل معها آثار الماضي بلا محاولات للمراجعة وإنتقاء الذاكرات واستخلاص الدروس المفيدة لصنع المستقبل وتوريث كل ذلك إلى الأجيال المتتالية. وفي هذه الحالة تتكرّر الأزمات وتتفاقم آثارها لدرجة تصبح مقولة (التاريخ يعيد نفسه) ممثّلةً لمجتمعاتٍ “ناقصة الذاكرة”، وهو ما يفسّر قلق (ريكور) من (قلّة الذاكرة أو طفح الذاكرة). وبهذه الصورة، عاش المجتمع العراقي المدّة التي تلت سقوط نظام صدام، بلا رواياتٍ عن الماضي في إطار ذاكرةٍ علميةٍ منتقاةٍ، ولم تجتهد الجامعات ومراكز الفكر في دراسة الماضي ورموزه وتحديد المساحات المفيدة فيه، أو المعدّة للنسيان من أجل بلورة ذاكرةٍ جامعةٍ تحدّد بوصلة الهوية الوطنية.