banarlogo

التطرف ومنطق احتكار الحقيقة

التطرف ومنطق احتكار الحقيقة

حازم رعد

يبدوا واضحاً أنَّ كل فئة من الناس مهما كان توجهها الديني أو السياسي تقابل الفئات الأخرى بمنطق ” الفرقة الناجية” او بلغة احتكار الحقيقة لنفسها فان ذلك ايذان منها ببداية فصول من الاقصاء للاخر المختلف عنها هووياً او دينياً او فكرياً ،

وانها بتلك الحمولات “المتطرفة” تصنع من الفئات الاخرى “التي تختلف معها بالدين او المذهب او الفكر” عدوة لها سواء شعرت بدلك او لم تشعر ، ان مقابلة الاخرين بهذا المنطق الذي يدعوا الى الالغاء وعدم الاعتراف بالمختلف سوف لن ينجم عنه إلا عن مزيد من البغضاء والتفرق وتوجس الخشية المستدامة عند الجميع وسيرسخ منطق “قلق الجميع من الجميع” وتطفو مخاوف على سطح الواقع يتسابق خلالها المتخاصمين جميعا للتفكير جدياً بتدريع نفسها أمام الآخر وتلجأ إلى منطق الاستقراء السياسي والعسكري للحيلولة دون الضعف الذي قد يؤدي إلى الإجهاز عليها ومحو هويتها ، وسيجعل من المنظومة الاجتماعية في الجغرافيا الواحدة والمتعددة واقفة على أكف عفريت “التطرف والعصبيات ومنطق الإلغاء” وعندما تتعرض تلك المنظومة لأيّ حراك متوتر ومخل فإنها ستكون عرضة لأي صِدام وانفجار ، سيما وإن إحدى تلك الفئات أو بعضها يمتلك مبررات استعمال القوة وحق الدفاع عن النفس والحفاظ على هوية الجماعة والسهر على سلامتها التي حاولت الأخرى تهميشها  أو محوها واستبدالها بأخرى من خلال منطق احتكار الحقيقة أو إلغائها بمنطق الفرقة الناجية وعندئذ لا يبقى من خيار للطرف المقابل إلا اللجوء إلى الصدام للحفاظ على الخصوصية أو لخلق توازن بين القوى قائم على احتكار كل جهة لأدوات اختبار الصمود المرّ المتأرجح ما بين الإلغاء أو الصراع .

بالعادة أن الصراع الذي يحصل بين الجماعات المختلفة هو نتيجة أفكار متطرفة وتصورات تنطلق من أفق ضيق لا يستوعب الآخرين ويضيق بهم ذرعاً في هذه الحياة الواسعة التي تسع الجميع ويمكن للكل البشري العيش فيها على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم بكل أمن وطمأنينة حاملين معهم وجهات نظر “ارحب من الايديولوجيا” بتعبير مستعار من عبد الكريم سروش .

بيد أنَّ الناس “المتطرفين منهم” يعتاشون على الخلاف والصراع المستدام لا يجدون حظاً أوفر للعيش والبقاء إلا على شحن نار الاحتراب المستمر بوقود من أفكار متطرفة تختزل الحقيقة ومفاهيم “في جوهرها صناعة بشرية خالصة” تنم عن عوق في التفكير أو أزمات نفسية تعصف بهم فيعمدون على جعلها أتون صراعاتهم المستمرة ؛ لأنَّ التطرف بتعبير حيدر حب الله – كأنبوب النفط المشتعل لا يمكن اطفائه إلا إذا قطعت ضخ النفط عنه لتنهي مشكلته .

ينبغي أن لا نغفل تأثير الكلمات والأفكار في الحياة والناس كبير جداً فجل الحرب كانت من أجل أفكار أما دينية واما دنيوية ، فالناس عموماً يعيشون ويموتون من أجل الأفكار ، وهذه الأخيرة تحكم العام كما يقول أوغست كونت.

وهذا ما أدعوه بأن الفكرة المغلقة التي تحصر الحقيقة بين “ألفها ويائها” هي النشاط المتطرف الذي يوصد أبواب الانفتاح على الآخر وعدم الاعتراف به ومقابلته بالبغضاء والكره وكل تلك القيم الشريرة تقود حتماً إلى العصبيات والانحياز الجماعي للفئات البشرية وتنتج الأزمات والصراعات وتدعو الآخرين إلى المقابلة بالضد المماثل حتى تجد لنفسها فسحة للوجود والبقاء .

بيد أن ذلك ليس كل الأمر فإن بالمقابل توجد الفلسفة التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين بحسب ما يراه رينيه ديكارت ، فليس التوحش إلا الاعتقاد بالفرادة على مستوى الفكرة أو العيش وعدم ترك مساحة للآخر واعتباره فاقداً للقيمة والكرامة .

إنَّ جوهر الفكرة “الحل والعلاج” لمنطق اختزال الحق بجماعة دون أخرى والقول بالفرقة الناجية والتي نستلهمها من فكرة ديكارت أعلاه هو أن الفلسفة حينما تتفشى في واقع اجتماعي ما وتأخذ بالتمدد فيه ويكثر تداول أفكارها ومفاهيمها فإن ذلك يقل إلى حد ما من نوبات التطرف والعصبيات على مستوى الأفكار والممارسة معاً .

ومعنى ذلك أنها تثخن الواقع بأفكار تزيح تدريجياً الأفكار المتزمتة التي تختزل الحقيقة وتفصل النجاة على مقاسات الايديولوجيين الذين يزيفون الواقع ويخلون به بتلك الأفكار التي توظف كل شيء “الدين – والاقتصاد – والفن – والأدب” من أجل مكاسب مصلحية للجهات والأفكار التي ينتمون أو ينتسبون إليها.

فلابد أن تحدث فاعلية ومقابلة نوعية في الواقع لكي نسد الفجوات التي يتدفق منها التطرف والعصبيات ونشيد صروح السلم المجتمعي عبر إشاعة خطاب العقلانية ، وأن نتمرن وندرب الآخرين على الفصل بين الفكرة “مهما كانت” كحرية خاصة وبين الممارسة التي قد تقتحم خصوصيات الآخرين ، القطيعة على هذه الشاكلة مقبولة ومعقولة إلى حدً ما ؛لأنَّها تسهم بتثبيت النظام والسلم الاجتماعي ، وكل ذلك تتوفر الفلسفة عليه وتتكفل رعايته عبر رؤية وأفكار ومناهج وأدوات تجدها ناجعة في إنجاز هذه المهمة الجليلة