الإبادة البيئية
حزب البعث في ارتكابه جريمة تجفيف الأهوار-1-
د. قيس ناصر
جامعة البصرة
إنَّ الجرائم التي ارتكبها حزب البعث المقبور في العراق لها أشكال مختلفة، جرائم إبادة جماعية، جرائم ضد الانسانية، جرائم حرب، جرائم ضد الحريات، والقائمة طويلة، وواحدة من تلك الجرائم هي جريمة الإبادة البيئية الشاملة لآلاف الكيلومترات في جنوب العراق، سواء من خلال تجريف بساتين النخيل أم تجفيف الأهوار، ولعل الأخيرة أكثر وقعاً، بحيث تم إبادة نظام بيئي بشكل كامل، الماء والحيوان والنبات، تمهيداً لإبادة الانسان الذي يسكن هذا النظام .
اللافت أن هذه الجريمة سبقتها سياسة ازدراء طائفية مخطط لها بعناية، وهي نوع آخر من الإبادة الجماعية التي ارتكبها النظام العراقي في وسط وجنوب العراق، إذ كان التمييز والإهانة ضد الشيعة، ليس بالرجوع الى عقدّي السبعينيات أو الثمانينيات من القرن العشرين، وما تعرضوا له، بل بالعودة الى حقبة التسعينيات وبشكل خاص سلسلة المقالات التي نُشرت في الصحف الحكومية وتعد تمثيلاً صريحاً لسياسة الازدراء .
وفي هذا السياق، وقبل بيان طبيعة الإبادة البيئية التي تعرض لها جنوب العراق، ينبغي الإشارة الى تلك المقالات التي عملت على ازدراء الشيعة، التي بعض مضمونها تم استعادته حتى بعد 2003م.
يُلخص الدكتور سلمان الهلالي تلك المقالات التي نشرتها جريدة الثورة الناطقة بلسان حزب البعث المقبور في نيسان 1991م، وهاجمت فيها شيعة العراق، بأقسى العبارات، واعتبرتهم اشراراً ومنحطين بالسليقة، وليسوا عراقيين أو عرباً، إنما هم من سلالة العبيد الوافدين من الهند، ويطيعون ديانة وضيعة لا تحتوي أية مبدأ أخلاقي، وغيرها من العبارات العنصرية، وكان عنوان المقال الأول: (ماذا حصل في أواخر عام 1990، وهذه الأشهر من عام 1991، ولماذا حصل الذي حصل)، أما المقال الثاني، فقد تضمن هجوماً لافتاً على المعتقدات الدينية الاسلامية في المذهب الشيعي، واتهم الانتفاضة الشعبانية أو انتفاضة اذار 1991م بخلق الفوضى والدمار في العراق، وفي المقال الثالث الذي نُشر في الخامس من نيسان، وكان بعنوان: (التعصب الشيعي، فساد أخلاق أهل الأهوار) وذُكر فيه أن المجموعة التي نشأت في الاهوار تعاني من القيم المنحرفة الناجمة عن أصولها الاجتماعية من الهند، حيث كانت ترعى الجواميس هناك.
وسنكتفي بهذا القدر من تلك المقالات التي يُقال أن كاتبها هو صدام نفسه، قد اعتمدت سياسة ازدراء واضحة ضد الشيعة في العراق بشكل عام وسكنة الاهوار بشكل خاص، وأنها سبقت التمهيد لتجفيف الأهوار وتدمير البيئة وتسميم المياه وإحراق قرى كاملة في الجنوب، وكل هذه الجرائم انتهاكات واضحة للقوانين والأعراف والشرائع السماوية .
كانت جريمة تجفيف الأهوار مروعة للغاية، ولو توفرت لها وسائل التواصل الاجتماعي الحالية وما متوفر من وسائل الإعلام، لأصبحت محط اهتمام العالم، وتم اعتبارها واحدة من جرائم العصر الحديث على ما سببته من تهجير قسري لعشرات الآلاف من الأُسر العراقية الجنوبية، فضلاً عن عدها واحدة من أسوأ الكوارث البيئية في العصر الحديث، اعتمد حزب البعث حينها أسلوب التدمير الشامل لتلك البيئة الساحرة، التي دائماً ما يستوقفنا رأي الرحالة منها سواء القدماء أم من المعاصرين، وفي كثير من الأحيان يصفون هذا المكان بالجمال الذي يوصف، وحتى بعض المستشرقين الغربيين يشيرون في كتبهم ومؤلفاتهم إلى أن مناطق الأهوار قد ذُكرت حتى في كتبهم القديمة، على وفق بحوثهم واستنتاجاتهم.
إنَّ ما جرى من إبادة بيئية للأهوار، يشير إلى عداء طائفي كان ينتهجه صدام ضد الطائفة الشيعية، كما تبين من المقالات التي تمت الإشارة إليها في بداية المقال.
تفاصيل الإبادة البيئية للأهوار، يتبع في المقال القادم .