الطلائع والفتوة في ذاكرة البعث العصيبة
د. حسين الزيادي / جامعة ذي قار
ثلاثون عاماً من حكم البعث كانت كفيلة بعسكرة المجتمع بكل أطيافه، ففي الوقت الذي كانت دول العالم تتسابق في مجال العلم والتكنلوجيا والمعرفة كان اهتمام البعث منصباً على ترسيخ أهدافه في عقول الناشئة والمحافظة على أركان نظامه المهزوم من الداخل وإشاعة أشكال من القسوة والوحشية، وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف أسس البعث الكثير من المنظمات التي منحها صلاحيات وواجهات إعلامية ضخمة وأولى تلك المنظمات التي أنشأها البعثُ ونشطت خلال الثمانينيات من القرن الماضي هي منظمة الطلائع التي خصص لها برنامجا تلفزيونيا خاصا بها ومجلة ثقافية وعشرات النشرات الأسبوعية، فضلاً عن الورش والندوات والمؤتمرات والمشاركة في المخيمات الكشفية المحلية والعربية والدولية والأنشطة الثقافية التي تعكس عقيدة البعث وتحث على العنف والقسوة، وكان التدريب على حمل السلاح واستخدامه من الأمور الأساسية في هذا التنظيم ، علماً أنه خلال الثمانينيات والتسعينيات، كان الطلبة في العراق يُلقنون بشكل إجباري مبادئ البعث عن طريق دروس التربية الوطنية والتربية القومية، والرسوب في هذه المواد يعني غالبا أن الطالب (أو عائلته) لا يمتلكون الروح الوطنية الكافية، وتستمر تلك المناهج حتى المرحلة الجامعية، حيث تدرس مادة التربية القومية.
النظام التعليمي في العراق كان ترجمة حرفية لأفكار الحزب المنحرفة فقد نصت مبادئ البعث أن غاية النظام التعليمي إنشاء جيل بعثي مشبع بروح النضال من أجل تحقيق أهدافه في الوحدة المزعومة والحرية التي لاوجود لها والاشتراكية الكاذبة، وتوثيقاً لربط التعليم بالحزب تم استحداث منظمات غير نظامية تعمل إلى جوار المنظومة التربوية الرسمية ولا تأتمر بأمرها، ومنها منظمة الطلائع التي كان لها دور جوهري في مراسيم رفع العلم أيام الخميس، ومن منا لا يتذكر الشعارات الصباحية في باحات المدرسة، فالأطفال في زمن البعث ومنذ الصف الأول مجبرين يومياً على ترديد شعارات العنف والقسوة والكراهية، ومصطلحات ربما لا يَعُون معناها الحقيقي .
ثم أُسست منظمة الفتوة التي لم تختلف عن سابقتها لكن هذه المنظمة تستقطب الأعمار الأعلى وغالباً ما تدمج التسمية لتكون منظمة الطلائع والفتوة، وفي عام 1998 ابتدع النظام تسمية يوم النخوة، وأجبر ملايين الطلبة على حمل واستخدام الأسلحة، وكان مشهداً عادياً وأنت تسير في أي شارع من شوارع العراق أن ترى مئات المراهقين يحملون الكتب ورشاشات الكلاشينكوف خارجين من المدرسة متوجهين إلى المنزل، ولا عجب في ذلك فالعنف في مسيرة البعث له جذور بعيدة موغلة في القدم منذ تأسيس الحزب وسيطرته على مقاليد الحكم في العراق، فهو عنف مؤدلج ينحدر من جذور بدوية جاهلية بدوية ؛ لأن العصابة البعثية الحاكمة كانت قروية بدوية بامتياز مرتبطة مع الصحراء حيث الثأر والانتقام والغلبة.
بعدها أسس النظام قوة عسكرية تسمى( أشبال صدام)، يسجل فيها الأطفال الذين تجاوزوا 12 عاما من العمر ولاتزيد عن 15 عام، لتلقي التدريبات الخاصة بحمل السلاح وتنفيذ مهمات معقدة، منها الاغتيالات والتجسس ونقل المعلومات ويتولى تنظيم أشبال صدام قيادة التنظيمات التعبوية لمنظمات الطلائع والفتوة ، والمشاركة في النشاطات والاستعراضات وتكون لهم الأفضلية في القبول في مدارس المتميزين والمدارس المطورة ولهم الأفضلية في القبول في الكليات العسكرية وكلية الشرطة فضلا عن الحوافز المالية
والمعاينة الموضوعية تكشف أن فاشية حزب البعث الذي حكم العراق قد عامل الطفل بوصفه ( رجلاً مصغراً ) فحاول أن يسير به خارج عمره الزمني، ويلبسه غير مقاساته ليستعجل رجولته باتجاه عسكرته، ليكون لبنة في البناء المنحرف للبعث، وهذا معناه تدمير مباشر لشخصية الطفل وسيكولوجية الطفولة ، فلم يكن نظام البعث يحترم الطفولة البريئة بل لم يكن يفهم المعنى الحقيقي لهذه المرحلة وتأثيراتها المستقبلية ، في الوقت الذي ادرك العالم اهمية هذه المرحلة وصار يتعامل معها بكونها واقعاً يجب احترامه.
لقد أنشأ البعث نموذجاً فريداً وصارخا للدولة الفاشية البوليسية التي حكمت البلاد بالقوة والقهر، حزب شعاره الموت والرعب ودولة يحكمها فرد واحد مستبد، وتديرها أجهزة فوق القانون، لتصبح اذرع الحزب ومنظماته أداة أمنية عمياء لقهر الشارع واستئصال التنوع وتكميم الأفواه وسوق الملايين إلى ساحات الحرب والموت التي ما إن تتوقف في جبهة حتى تندلع في جبهة ثانية، فيما حرص البعث بكل قوته على ضبط الولاء الاجباري له بقوة الحديد والنار، ليتحول بلد كامل إلى سجن كبير لا يحق لاحد فيه مناقشة السجان أو انتقاده.