رفض الآخر .. العتبة الأولى نحو التطرف
أ.د. حسين الزيادي
جامعة ذي قار – العراق
التَّطرُّف ظاهرةٌ مرضية دخيلة لا تمتّ لمجتمعنا الإسلامي بصلة ، وواجبنا الدّيني والأخلاقي والقانوني يحتّم علينا تجفيف كلّ المنابع والمصادر التي تغذي هذه الظاهرة وتشوه حقيقة الإسلام وتزرع الشقاق والكراهية في جسد الأمة ، وأبرز تلك المنابع هي رفض الآخر وعدم الاعتراف به ، وهو المدخل الأول للولوج في سيكولوجيا التطرف وثقافة العنف والتعصب والاستعلاء ، وقد تناسى بعضهم أن هنالك حكمةً إلهيّةً في التنوع والاختلاف كونه واقعا كونيا وضرورة اجتماعية ,وحق إنساني ومصدر قوة وانبعاث وتجدد وإرادة إلهيّة يستحيل إلغاؤها ، بل هي سنة من سنن الله تعالى القائل في محكم كتابه الكريم: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).
وما دام الآمر هكذا علينا أن نتعاملَ مع هذا الواقع بوعي يحققُ التعايش السّلمي في ظلِّ التنوع والتكامل وأن نصنعَ من هذا التنوع جداراً حضارياً وثقافياً يعزز الوحدة ، والتنوع والاختلاف لا يقتصر على البشر بل يشمل كلَّ الكائنات والجمادات في البيئة، والى هذا المعنى أشار القرآنُ الكريم بقول الله عز وجل (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَٰنُهُۥٓ ۗ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لِّقَوْمٍۢ يَذَّكَّرُونَ) وقوله تبارك وتعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)،وفي قوله عز وجل(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ).
وتأسيساً على ما تقدَّم يمكن الجزم أن التّنوع هو أحد تجليات عظمة الخالق عز وجل، وقدرته في خلقه، كما أنَّ إقرارَ القرآن الكريم بالتنوع دليل على مشروعيته ؛ لذلك وجب اعتماده واحترامه، إذ لا يحق لأحد أن يكفرَ بهذا التنوع أو يتنكر له أبدا، فيسعى لإجبار الناس على الوحدة في التفكير والانتماء والرأي ؛ لأنَّه يتعارض وحكمة الله عز وجل في التنوع، كما أن ذلك يعد أول الظلم الذي يلحقه الإنسان بأخيه الإنسان، عندما يسلب منه حقا الله تعالى منحه إياه، ألا وهو حق التنوع والاختلاف، لأنَّ الإكراه والفرض والجبر ظلم يفضي إلى الغاء الاخر واستعباده وربما الدعوة الى محوه من خريطة الوجود .
تنطلقُ العلاقات الإنسانية في الشريعة الإسلامية من رؤية فلسفية عميقة ترتكز على مبدأ حسن الحوار واحترام التعَددية بكل جوانبها، والاعتراف الإيجابي بالآخر، في إطار السعي لبناء حضارة اجتماعية ومنظومة ثقافية معتدلة، تعمل لخير البشرية وتحقق السعادة الدينية والدنيوية، وهذه العلاقة تقوم على مجموعة من الأسس والركائز، أبرزها الإيمان بسنة التعدد والاختلاف، ويعد رفض الآخر البداية الحقيقية لركوب قافلة التطرف التي ستؤدي حتماً إلى محطة الإرهاب والارتماء في أحضان الجماعات العنيفة والمتطرفة ؛لأنَّ التطرف أسلوب مغلق ، يتسمُ بعدم الاعتراف بالآخر وعدم التهاون مع آرائه ومعتقداته التي تتسم بالبطلان ( كما يرى المتطرفون).
فالمعتقد الصحيح والمنجى كما يراه هؤلاء هو معتقدهم ولا مجال للمناقشة ولا للبحث عن أدلة تؤكد خطأه أو نفيه، والمشكلة لا تكمن في رفض الآخر وإنما في تحول ذلك الرفض وترجمته إلى فرض المعتقد والرأي على الآخرين بالقوة والعنف، وهذا الدستور يخالف الشريعة الاسلامية شكلاً ومضموناً ، إذ يعد المجتمع الإسلامي أول مجتمع بشري اعترف بالآخر منذ عام 622 م ، عندما وصل الرسول الكريم إلى المدينة المنورة وأصدر دستور المدينة وتمَّ الاعتراف باليهود بوصفهم مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، ولهم ثقافة مغايرة لثقافة المجتمع المسلم، وكانوا يمارسون حرياتهم وطقوسهم وتجارتهم وعلاقاتهم، أي لم يكن الإسلام دينا بتوجهات عنيفة، ولم يسلك طريق الإكراه مع الآخرين، بقدر ما كان دين تسامح وسلام ، فالإسلام غرس مبدأ قبول الآخر والتعايش معه على أساس الالتزام بالحقوق والواجبات، فعاش غير المسلمين مع المسلمين في أمن وأمان واستقرار، على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، وساد في الناس هذا القانون العادل الذى ينظم علاقة المسلمين بغيرهم على قاعدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، هذا القانون الذى ينظم علاقة المسلمين بغيرهم كحد أدنى للتعايش ويضمن للناس جميعا الأمن والاستقرار ، فلا تفرقة بين الناس في الحقوق والواجبات بسبب الدين أو اللون أو الجنس أو العرق أو الغنى أو الفقر، بل إن الأمر لم يقف عند الالتزام بالحقوق والواجبات بل تجاوزه إلى حد التسامح والإحسان.
قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
إنَّ من المشكلات التي يعاني منها الواقع الإنساني، هي مسألة الحوار القائم على الاعتراف بالآخر، وإزالة الالتباسات والإشكالات من أجل إرساء قواعد سليمة في التعامل الإنساني، وقد أولى الإسلام الحوار مع الآخر اهتماماً كبيراً، داعياً إلى الالتزام بالآداب العامة للحوار التي ترتكز على المحاورة بالحسن والتواضع بالقول والفعل وحسن الاستماع والعدل والإنصاف، فضلاً عن الحلم والصبر، والادلة في الحوار القرآني أكثر من أن تعد وتحصى فهناك الحوار مع أصحاب الملل المختلفة والحوار بين الأنبياء وقومهم والحوار بين المؤمنين، وحوارات القرآن الكريم كلّها دروس وعبر، والحوار القرآني أبعد مايكون عن التسلط، والعنف، فقد قال جل وعلا (وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ )
الحوار ليس مطلوبا لذاته، بل هو وسيلة للوصول إلى نقاط ارتكاز مشتركة بين المتحاورين تؤسس لتفاهم أكبر على المستوى الحياتي والنشاط الإنساني، لذلك بات من المهم فتح قنوات الحوار وفق الضوابط الشرعية مع الطرف الآخر.