الأقليات الإثنية في العراق من منظور الفكر المتطرف
رؤية تأصيلية- ديموغرافية
أ.د.حسين الزيادي
تعرفُ الأقليةُ على أنّها جماعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات كالدّين أو اللُّغة أو الثقافة أو السلالة، واستنادا لذلك فالأقليةُ هي جماعة أثنية أياً كان المتغير الذي يحدد أثنيتها، فهي، أما أقلية مادية ( العدد أو الحجم ) ، أو أقلية معنوية من حيث (ضعف الوزن الاجتماعي )، أما معيار الحجم العددي للأقلية فهو معيار نسبي متغير بحسب الحجم السكاني للدولة ؛لذا لا يمكن وضع معيار ديموغرافي ثابت.
يحتضنُ العراقُ الكثيرَ من الأقليات الدينية والاثنية والقومية منذ آلاف السنين، وهم من السكان الأصيلين لبلاد لوادي الرافدين الذين أسهموا في بناء الحضارة العراقية، وكانوا مصدر قوة وانبعاث وتجدد كالمسيحيين: كلدان، آشوريين، أرمن، سريان، والأيزيدية، والصابئة المندائيين، والشبك والتركمان، كان للأقليات العراقية دور مباشر وكبير في رسم معالم الدولة العراقية القديمة والحديثة، فالمسيحيون العراقيون كانوا من ضمن الرعيل الأول لبناء الدولة العراقية.
لقد ركّزت التنظيمات المتطرفة التي ابتلي بها العراقُ على استهداف الأقليات بشكل خاص متناسين بما يمليه عليهم فكرهم المنحرف أن التنوع والاختلاف واقع كوني وإرادة إلهية يستحيل إلغاؤها، والتعدد ضرورة اجتماعية والمواطنة حق إنساني، لذا لا مناص من تطبيق منظومة الحوار الثقافي وتوسيع إطار التلاقح الثقافي واحترام الحياه بكل أنواعها من خلال نبذ العنف والاستماع إلى الآخر.
ويبدو أن الفكر المتطرف حاول القضاء على أحد مؤشرات ورموز التعايش الديني والثقافي في العراق بشكل خاص ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وبالتالي زعزعة الاستقرار الداخلي للبلد وجميع البلدان التي يتعدد نسيجها الاجتماعي، وقد انعكس هذا التعامل على التركيبة الديموغرافية للبلاد من خلال تغيير ديموغرافي في الخريطة الاثنية العراقية حجماً وتوزيعاً، وفقدان العراق لمصدر مهم من مصادره السكانية التي يفتخر بها، فالمسيحيين كانوا عرضة للهجمات المباشرة أثناء الحرب الطائفية وهجوم عصابات داعش في مرحلة قبل وبعد 2014، مما أدى إلى هجرة جماعية إلى خارج البلاد، أما الصابئة المندائيون فبقي منهم في العراق فقط حوالي (5000 ) شخص، وكان عددهم لا يقل عن ( 30000) قبل العام 2003، أما الشبك فقد قام تنظيم داعش بعمليات واعتداء قاسية جدا ضد الشبك الشيعة تحديداً، من قتل ونهب للأموال والمنازل وتفجير للأضرحة والمقامات ودور العبادة، وقد أقدم التنظيم على قتل المئات منهم وتهجير الآخرين.
اما الإيزيديون وهم أقلية عرقية ودينية تتركز في محافظة نينوى شمال العراق (جبل سنجار تحديداً) ، فقد هاجمها الفكر المتطرف من خلال عناصر داعش في ذلك العام فقتلوا المئات من رجالها وأطفالها ، وخطفوا نساءها واتخذوهن سبايا، وقاموا بعمليات اغتصاب واعتداءات جنسية ممنهجة، وقد وثّقت هيومن رايتس ووتش نهجاً منظماً من الاغتصاب والاسترقاق الجنسي والتزويج القسري من قبل هذا التنظيم المتطرف، وتلك الأفعال ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية، وبحسب إحصاءات المديرية العامة لشؤون الايزيدية في وزارة أوقاف حكومة إقليم كردستان، قتل نحو 1280 أيزيديا، ويتم أكثر من 2300 طفل، وتعرض ما يقارب 70 مزارا للتدمير، وخطف التنظيم أيضا أكثر من 6400 أيزيدي، معظمهم من النساء والفتيات، نجا منهم نحو 3400 شخص.
وما زالت الكثيرات من السيدات والفتيات في عداد المفقودين منذ اجتياح التنظيم لسنجار عام 2014، وقد هاجر ما يقارب 100 ألف إيزيدي من العراق إلى أوروبا والولايات المتحدة واستراليا وكندا، ولا يزال نحو 360 ألفا يعيشون اليوم في مخيمات النازحين شمال غرب العراق، ولم يتمكن سوى بضعة آلاف فقط من العودة إلى سنجار مقر الديانة الرئيس، حيث لا تزال معظم المنازل أنقاضا.
أما الهدف الآخر، فالتنظيم يهدف إلى دفع الدول الغربية إلى الدخول في حرب مع التنظيم المتطرف وهو ما يكسبه الشرعية بوصفه يقاتل اعداء الاسلام حسب ادعائهم، بالشكل الذي يعزز ادعاءاته بأنَّ الإسلام في حالة صراع مع الديانات والقوميات الأخرى، وهناك هدف أشد خطورة مما سبق يتمثل برغبة التنظيمات المتطرفة في تأجيج العداء الخارجي للإسلام مما يسهم في ميل بعض المسلمين إلى جانب الحركات المتطرفة وتبني ما يسمّونه بالفكر الجهادي.
يتكئُ التنظيم المتطرف في معاملته للأقليات الاثنية على فكر منحرف فاسد، فهو يبيح لنفسه مصادرة أموال أهل الذمة وسبي نسائهم، وحتى قتلهم فهو يبعث رسائل ضمنية للآخرين بأنَّ الإسلام دين غزو وقتل وسرقة واحتلال واغتصاب نساء إلخ، وهو خلاف مبادئ الإسلام الحقيقية ، وقد اتبعت التنظيمات المتطرفة عندما أقامت دولتها المزعومة على أجزاء من العراق وسوريا نفس النهج الإجرامي التي تتبعه بوصفه تراثا إسلاميا مقدساً لا يمكن المساس برموزه أو التشكيك بهم، ففي كتاب الكامل في التأريخ يقول ابن الأثير: أن موسى بن نصير فاتح المغرب قد أسر 300 ألف من السبايا، وأنه قام بانتقاء الأكثر جمالاً، وأرسلهن إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك (وكان عددهن 60 ألفا) .
وعندما تولّى هشام بن عبد الملك (741– 691م) الخلافة، كان أول أعماله هو إرسال رسالة إلى عامله على بلاد الأمازيغ يطالبه فيها بإرسال المزيد من السبايا الأمازيغيات الحسناوات إلى دمشق، وقد ذكر الطبري في تأريخ الرسل والملوك :أن شوارع الشام قد ضاقت بحوالي 100 ألف فتاة بكر، فانخفضت أسعارهن حتى بيعت الواحدة منهن بقبضة من الفلفل، بينما كانت الجارية تباع قبل هذا التأريخ بـ “100” قطعة ذهبية، وعموماً فإن هذا وغيره كثير يبين أن الهوسَ بالسبي والاغتصاب والاسترقاق الجنسي أمر متجذر في عقائد التطرُّف ممن يتبعون المدارس الأُموية التي حرفت الإسلام سمعته وأضرت بمكانته.
الإسلام دين عالمي يتجه برسالته إلى البشرية كلها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم وتُرسي دعائم السلام في الأرض، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعاً في جو من الإخاء والتسامح والمحبة ونبذ العنف والتعامل مع الآخر بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم، فالجميعُ ينحدرون من (نفس واحدة)، كما جاء في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) ، كما أنَّ الإسلامَ من جهته يعترف بوجود الآخر المخالف فرداً كان أو جماعة ويعترف بشرعيته، ويكفي أن نعلم أن القرآن الكريم قد سمّى الشِّرك ديناً على الرغم من وضوح بطلانه، لا لشيء إلاّ لأنه في وجدان معتنقيه دين واجب الاتباع.
إنَّ الأقليات غير الإسلامية محترمة لذاتها نفساً ومالاً وعِرضاً، ولم يتعرض الإسلام لها بسوء، فالإسلام لا يجبر أحداً على اعتناقه، وتلك آيات القران الكريم شاخصة واضحة التأويل: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين)، وهذه الآيات دعوة إلى وجود المجتمع المدني وتأكيد على مبدأ حقوق الإنسان، وكان الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) يحترمُ حتى إنسانية الكفّار والمشركين ويحفظ لهم كرامتهم وحقوقهم، مع أنهم كانوا يناصبونه العداء، ويقول: (من آذى ذميّاً فقد آذاني) وهذا القول عنوان كبير لدولة الإنسان التي تحترم انسانية الإنسان.
إنَّ من أهم الأمور التي أكّدها الإسلامُ تأكيداً بالغاً هو احترام الإنسان بما هو إنسان فالإنسانية في المقام الأول، بغض النظر عن اللون واللغة والقومية والدين ، وقد كان في سيرة الرسول الكريم وأهل بيته الاطهار عليهم السلام أبرز تجل ومصداق لسلوك ومنهجية الإسلام في التسامح والتعايش السلمي وتقبل الآخر، فالرسولُ الأكرم صلى الله عليه وآله القائد الأول للحركة السلمية اللاعنفية في تأريخ العالم، وقد استمرّ حتى آخر حياته حاملاً لراية السلم والسلام ؛لأنه يحمل للبشرية النور والهداية والخير والرشاد والرحمة والرأفة، فيقول (صلّى اللهُ عليه وآله) :(إنما أنا رحمة مهداة) ، ويتحدثُ القرآن الكريم عن رسالته فيقول:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ، فالرحمةُ والسّلمُ والسلامُ جاء بها الإسلام للناس كافة، كما أشار إلى ذلك النبي (صلى الله عليه و آله ) في قوله: (أيها الناس، إنَّ ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ، و (ليس لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر، فضل إلَّا بالتقوى)
وقد تجسّدت النظريةُ القرآنية المتعلقة بالتعامل مع الآخر من خلال سيرة الإمام علي (عليه السلام) فهي السبيل الذي لا ينقطع لمن أراد البحث في حقوق الأقليات، فقد كان “عليه السلام” مثالاً للاعتدال والوسطية وتقبّل الرأي الآخر والتسامح مع المخالفين، فقد كان الخوارج يجاهرون بعداوته بين المسلمين، لكنه وهو الحاكم الأعلى للدولة لا يقصيهم ولا يعاقبهم، بل يترفق بهم، ويحرص على تطبيق العدل والإنصاف معهم فقد جاءه أحد أعدائه وقال له: “أنا لا أتابعك، ولا أبايعك، ولا أخرج معك في وقت، ولا أصلي معك جمعة ولا جماعة، فرد عليه الإمام “عليه السلام” : وأنا لا أجبرك على شيء من ذلك، ولا أمنع عنك فيئك، وأسالمك ما سالمت المسلمين.
أما عهده إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر فيعد من كنوز المعرفة ومنابع الحكمة، ومازال على كثرة المحققين والباحثين يحتاج لمزيد من التقصي والبحث، فالعهد العلوي من أروع العهود التي سنت للعلاقة بين الحاكم والمحكومين، ومازالت عبارته الخالدة، (لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم)، تدقق أجراس التأريخ وتطرح مقياسا كاملا للعدالة لما فيها من بعد سيكولوجي وتشبيه غاية في الروعة والدقة والجمال، ويعد هذا العهد مفخرة للعرب والمسلمين والانسانية جمعاء، إذ يحار الإنسان إلى أي جانب منه يشير ومن أي الحكم يقتطف، فهذا الفكر المستقى من الوحي وسيرة النبي (صلى الله عليه وآله) يؤكد على مبدأ الأخوَّة الإنسانية، ومازالت حكمة الإمام عليه السلام تخترق حجب الزمن (فالناس صنفان، إمّا أخ لك في الدِّين، أو نظير لك في الخلق) ، هذه الحكمة يجب أن تطرز بماء الذهب وتصبح ورقة عمل للحاكم والمسؤول، فالإمام (عليه السلام) يرى أن ليس لأحد الحق، أيّاً كان، في أن يستصغرَ الآخرين أو أن يستهينَ بهم.
وقصةُ الإمام “عليه السلام” مع النصراني المكفوف تكشف بجلاء حقيقة الإسلام في التعامل مع الأقليات والديانات الأخرى: حيث كان الإمام (عليه السلام) ماراً في شوارع الكوفة، فمرّ بشيخ كبير السن يتكفف، فوقف “عليه السلام” متعجباً وقال: ما هذا؟ ولم يقل من هذا، و(ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل، أي أن أمير المؤمنين رأى شيئاً عجيباً يستحق أن يتعجب منه، أي أنه “عليه السلام” يسأل عن الصفة أو الحالة لا عن الشخص، فقال أي شيء هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف، فقال “عليه السلام” :ما أنصفتموه، استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، اجروا له من بيت المال راتباً.
وأخيراً ينبغي القول إن التعدد الاثني في العراق إذا ما أريد له أن يستمر، فعلينا أولاً أن نجابه الفكر المتطرف بقوة، ونجلي الصدأ عن الإسلام المحمدي الأصيل؛ لأنَّ مستقبل الأقليات في العراق أمرا محوريا يمسُّ مستقبلَ العراق كدولة، وإن اتخاذ الإجراءات القانونية لحماية حقوق الأقليات سيكون أحد المؤشرات المهمة على التزام الحكومة العراقية بالتعددية والديمقراطية بما يضمن مستقبل العراق كدولة قومية توفر الحماية الحقوق لكل أبناء شعبها، ومن جانب آخر و أهم أن حماية الأقليات والدفاع عن حقوقهم في الحياة وممارسة طقوسهم تعكس الوجه المشرق للإسلام وتنفي التهم التي طالما حاول الفكر المتطرف الصاقه به.