على خطى المواجهة …الخطابُ المتطرّف من منظورٍ عقائديٍّ (2)
الارهاب والتّطرُّف
أ.د.حسين الزيادي
التّطرُّف هو مجاوزةُ حدِّ الاعتدال , وهو تفكير مغلق لا يقبل الرأي الآخر , ويرفض التّسامح مع المعتقدات والآراء المخالفة ، فهو بالضدِّ من الوسطية ، وهناك ارتباط وثيق بين التّطرُّف والإرهاب ، كونهما حلقتان متصلتان، فالتّطرُّف هو حاضنة الإرهاب ونقطة الانطلاق الأولى له، ويكمن خطر التّطرُّف بوصفه الممول الرئيس للإرهاب وهذا التمويل أخطر وأعمق أثراً من التمويل المادي والمعنوي، كما أنَّ تحقيقَ الأمن الفكري ومحاربة التّطرُّف من شأنه أن يقضي على الإرهاب بأنواعه، ويمكنُ تمزيق البنية الفكرية للتطرف عن طريق تحصين عقول الشباب وأفكارهم من الغزو الفكري المضلل عن طريق تفعيل النسق الديني المعتدل المتسامح الذي دعت له الشريعة السمحاء، فالفلسفة الإسلامية النابعة من مبادى الاسلام وسيرة النبي الكريم وآل بيته الأطهار هي العلاج الفكري الناجع لمواجهة الأمراض التي تنخر جسد الأمة وتهددها في كل زمان ومكان.
إنَّ التفريقَ بين الإرهاب والتّطرُّف مسألة جدلية شائكة، لشيوع التّطرُّف والإرهاب بوصفهما وجهين لعملة واحدة، ومع ذلك فالتفرقة ضرورية ؛لأنَّ التّطرُّفَ يرتبطُ بمعتقدات وأفكار بعيدة عما هو معتاد ومتعارف عليه سياسيا واجتماعيا ودينيا دون أن ترتبط تلك المعتقدات و الأفكار بسلوكيات مادية عنيفة في مواجهة المجتمع أو الدولة، أما إذا وصل رفض الآخر الى درجة كبيرة ، عندها يرتبط بالعنف المادي أو التهديد بالعنف ، فالتّطرُّف دائما في دائرة الفكر، أما عندما يتحول الفكر المتطرف إلى أنماط عنيفة من السلوك من اعتداء على الحريات أو الممتلكات أو الأرواح أو تشكيل التنظيمات المسلحة التي تستخدم في مواجهة المجتمع والدولة ، فهو عندئذ يتحول إلى إرهاب.
لا يعاقب القانون على التّطرُّف ولا يعتبره جريمة ومن هنا تكمن خطورة التّطرُّف، بينما الإرهاب هو جريمة يعاقب عليها القانون، فتطرف الفكر لا يعاقب عليه القانون باعتبار أن القانون لا يعاقب على النوايا والأفكار، في حين أن السلوك الإرهابي هو حركة مادية نابعة من فكر مبني على حرية اختيار ومن هنا يتم تجريمه.
يختلف التّطرُّف عن الإرهاب من خلال طرق معالجته ، فالتّطرُّف في الفكر يكون وسيلة علاجه هي الفكر والحوار، أما إذا تحول التّطرُّف إلى تصادم فهو يخرج عن حدود الفكر إلى نطاق الجريمة مما يستلزم تغيير مبدأ المعاملة وأسلوبها، وللتطرف مظاهر متعددة أبرزها:
- عدم الاعتراف بآراء الاخرين وعدم السماح لهم بالاجتهاد وهو أمر يجيزه المتطرف لنفسه، كما أنه يرى نفسه صاحب الحق المطلق والآخر على باطل، ومن صفات المتطرِف أنه يرى نفسه على الصواب بدرجة اليقين الذي لا يقبل الشَّك والحق الَّذي لا باطل معه وأنهم الفئة الوحيدة الناجية، والصائبة، والقويمة، وكل ما هو خارجها أو عداها على خطأ وعلى سوء , وهو ما يخلق حالة دائمة من الكرِّ والفرِّ، والهجوم والهروب، والرغبة في تدمير كل من لا ينتمي إلى المجموعة.
- التشدد في الفرائض والواجبات الدينية والدنيوية.
- يحتكم المتطرف في أفعاله وتصرفاته وأقواله إلى محاكمة عقلية، فإنه غالِبًا ما يروِض عقله ليكون شاهد زور لما ينحاز إليه، أي انه يحرف النص أو الدلالات باتجاه ميوله واتجاهاته.
- سوء الظن بالأخرين وعدم اللين في التعامل.
- العنف في التعامل والنظرة التشاؤمية للأحداث.
- استباحة دماء المخالفين وأموالهم وأعراضهم وهذا يعد أخطر مظاهر التّطرُّف.
أسباب التّطرُّف
- الجهل بالإسلام والاعتماد على الأحاديث المكذوبة وغير الصحيحة والضعيفة، فضلاً عن التفسير الخاطئ للآيات القرآنية.
- الفراغ الفكري والتوقف عن الابداع والإنتاج والاندماج مع الآخرين.
- عدم وجود مرجعيات دينية رصينة.
- البطالة والفقر والتهميش والتفكك الأسري .
- القمع والاستبداد وتقييد حرية الآخرين.
- عدم تفعيل المؤسسة الإعلامية والتربوية.
تقديس كتب التراث لدى المتطرفين
قد لا يخفى على كثيرين أنَّ القرآن كان واضحا في مبدأ عدم الإكراه على الدين “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (البقرة 256) وعلى حق أي إنسان أن يؤمن أو أن يكفر “فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف 29)
ولكن قيادات الجماعات الإسلامية لم تكن تتوانى عن التقليل من شأن القرآن في هذا الأمر المهم , واستبداله بمفهوم قتل المرتد , وقتل تارك الصلاة , وضرب النساء لإجبارهن على ارتداء الحجاب وعقوبة المفطرين في رمضان تعزيرا لهم، فالفكرُ المتطرف انتقائي في كل شيء , يأخذ ما يرسخ خطاه وهو الدعوة الى تكفير الآخر ويترك آيات التسامح والفضيلة والتعايش السلمي، فهم أي المتطرفين استبدلوا قوله تعالى “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” بالهمجية والوحشية فأحلوا أقوامهم دار البوار.
الوحدة الإسلامية في القرآن الكريم
يجسّدُ القرآنُ الكريمُ الوحدة الاسلامية بأروع وأجمل صورة ، فحينما نتأمل بمفردات آياته جل وعلا نجد هذا المفهوم واضحاً جلياً في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ أو قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، فالقرآنُ يصوغ ويؤكد على مفهوم الأمة الواحدة ، القادرة على التعايش والتكيّف فيما بينها ، في حين ينقسم الفكر المتطرف ويتشظى في حالة خلافه حتى مع من يملكون نفس أفكاره ؛ لأنَّ عقيدة التّطرُّف ناشئة من مقولة (نحن الأمة الناجية وما عدانا كفار مصيرهم النار).
وقد تنوّعت أساليب الدعوة الى الوحدة الإسلامية في القرآن الكريم، فتارة تكون عن طريق الدعوة للاعتصام بحبل الله تعالى كما في قوله تعالى: ﴿وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
.وتارة تكون عن طريق الدعوة لإصلاح ذات البين كما في قوله تعالى : (إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).وقال جل وعلا: ( فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ).
اما الأسلوب الآخر الذي اتبعه القرآن الكريم في الدعوة للوحدة فهو أسلوب النهي عن الافتراق والاختلاف للدلالة على وجوب الوحدة بين المسلمين النهي الصريح عن الافتراق والاختلاف الذي هو ضد الوحدة والاجتماع.
قال الله عز وجل: ﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ)
. ومن الأساليب المهمة التي ركَّز عليها القرآن الكريم لتحقيق الوحدة هو دعوة المسلمين ليكون بعضهم أولياء بعض كما في قوله تعالى ) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( .
وأثبتت المعالجات الأمنية فشلها في مواجهة التّطرُّف ؛ لأننا أزاء فكر مؤدلج معبأ إلى درجة رفض الآخر، بل إلى درجة الاعتقاد بأن هذا الفكر سيجعله _أي المتطرف_ شهيدا وسيضمن له الجنة الموعودة، فهو لا ينتظر (كما يرى) إلا إحدى الحسنيين (إما النصر وإما الشهادة)، فإن انتصر في الدنيا فسيقيم “دولة الشريعة” التي ينشدها وإن مات فهو في “عليين، ومن هنا بات من الضرورة بمكان وضع آليات واستراتيجيات عملية لمواجهة طوفان التّطرُّف للحد منه ومتابعته والقضاء عليه وهذا لا يكون إلا من خلال استئصال جذور التّطرُّف ومنظومته الفكرية والعقائدية ودحضها بالدليل العلمي ، وإعـداد بـرامج تدريبيـة توعيـة لرفـع مسـتوى العـاملين فـي المجال التربوي والإعلامي وتوجيه أدوات الوعي والثقافة السياسية ووسائلها المختلفة لتكون فعالة في تنمية مدركات الشباب للتصدي لظاهرة الإرهاب والتّطرُّف التي تعصف بالمجتمعات.