الجريمة المنسية … قمع الانتفاضة الشعبانية
عبد الهادي معتوق الحاتم
تعدُّ جريمة الإبادة الجماعية من أهمِّ الجرائم الدولية التي كان لها في ضوء خلفيتها التاريخية أثرٌ عميقٌ على ضمير الإنسان , ففي السنة الأولى من عملها في ديسمبر 1946 ، تبنت الأمم المتحدة صراحة القرار رقم 96-96 ، الذي يُجرم بموجب القانون الدولي الإبادةَ الجماعيّةَ ، وفي وقت لاحق اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة نص اتفاقية حظر الإبادة الجماعية .
كيف تبلورت انتفاضة الشعب العراقي؟
تتزامن هذه الأيام مع ذكرى الانتفاضة العراقية التي انطلقت في شعبان عام 1411 هـ الموافق مارس 1990 والمعروفة بالانتفاضة الشعبانية ، والتي اندلعت بعد هزيمة الجيش العراقي في حرب الخليج الأولى ، وسقطت 14 محافظة عراقية من أصل ثمانية عشر في أيدي المحتجين ، وعلى اثرها بسبب قمع الجيش لهم قُتِل الآلاف ونزح حوالي مليوني شخص.
بدأت الانتفاضة في مدينة البصرة, جندي عراقي سئم الحرب الكويتية وجّه فوهة أنبوب دبابته إلى صورة للطاغية صدام نصبت في بداية الشارع المؤدي إلى منطقة حي الحسين (الحيانية) المنطقة الأكثر شعبية في البصرة ، وأطلق النار عليه. تحمس الناس وهاجموا مقرات حزب البعث في الحيانية ونفّذوا الإعدام بالعشرات من عناصر الأمن والرفاق الذين عاثوا في البصرة فسادا .. وكانت هذه نقطة انطلاق الانتفاضة, وتجدر الإشارة إلى أنَّه بعد الهزيمة الفادحة للجيش العراقي في حرب عام 1991 في الكويت ، وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 670 ، تم حظر جميع تحركات طائرات الجيش العراقي وحتى طائرات الهليكوبتر. الوضع ومن شمال البلاد الى جنوبها ثاروا على نظام صدام حسين.
دور المرجعية الدينية في الانتفاضة الشعبانية
شرع الراحل آيةُ الله العظمى السيد الخوئي انتفاضة الشعب العراقي ضد النظام البعثي ، ووقف هو نفسه إلى جانب الحركة الشعبية والثورة.
خلال هذه الفترة التي لم تستمر أكثر من شهر ، كان الشعب يحكمه تشكيل لجان شعبية تحت إشراف لجنة من تسعة أعضاء أمر بتشكيلها المرحوم آية الله الخوئي, و هذه اللجنة التي تم اختيارها من القيادات الشعبية والاجتماعية والعلمية للحوزة تشرف كل منها على الشؤون اليومية لأهالي هذه المدن. وأعضاء هذه اللجنة هم: السيد محيي الدين الغريفي ، السيد محمد رضا الموسوي الخلخالي ، السيد جعفر بحر العلوم ، السيد عز الدين بحر العلوم ، السيد محمد رضا الخرسان ، السيد محمد السبزواري ، الشيخ محمد رضا الشبيبي ، والسيد محمد تقي الخوئي, كما نصح آية الله السيد أبو القاسم الخوئي الناس بمراعاة الشريعة في النشاطات التي يقومون بها , كما أعرب آية الله السيد عبد الأعلى السبزواري ، أحد كبار علماء النجف الأشرف عن دعمه لهذه الانتفاضة بإصدار فتوى بهذا الشأن.
شنت قوات نظام صدام حملة قمع واسعة النطاق على الثوار لمواجهة هذه الانتفاضة, و لا يُعرف سوى القليل عن عدد القتلى ، لكن وفقًا للأرقام غير الرسمية ، قُتل ما بين 300 ألف و 500 ألف شخص ونزح حوالي مليوني عراقي في هذا القمع ، وسارعت منظمة مجاهدي خلق الإيرانية (المنافقون) أيضًا لمساعدة صدام وقتلت قواتهم أكثر من 25 ألف عراقي في حملة القمع وبحسب الوثائق المتوفرة فقد تورطوا في قمع أهالي البصرة وديالى ودفن عدد كبير من القتلى في مقابر جماعية.
هاجمت قوات نظام صدام كربلاء والنجف بالمدفعية والدبابات ، مما أدى إلى تدمير مقامات الإمامين علي والإمام الحسين وأخيه العباس عليهم السلام وإغلاقهما لمدة ستة أشهر. دمرت القوات البعثية العديد من المدارس الدينية في كربلاء والنجف ، بما في ذلك مدرسة دار الحكمة في النجف.
اعتقل حزب البعث آية الله الخوئي وأرسل إلى بغداد لدعمه المباشر للثورة ، وبعد يومين من الاعتقال ، اقتيد قسراً إلى صدام حسين .
ولم تستمر الانتفاضة أكثر من اسبوعين وبعدها ظهرت علامات الفشل والانكسار والاسباب كثيرة منها:
1 – ضعف التنسيق بين المجموعات العراقية ، والسيطرة غير المخطط لها على المدن من قبل الثوار ، والهيمنة الجوية للنظام ، وخاصة دور المروحيات في قمع الشعب ، وعدم وجود روح التعاون والوطنية بين الجماعات أضعف روح التضامن. .
2 – جرائم القتل البشعة التي اتبعها أزلام النظام المقبور كسياسة قمع دائم بلا حدود كان أشد مرارة.
3 – الموقف الذي اتخذته دولة الاحتلال الامريكي بعد انتفاضة الشعب العراقي ، فقد أدرك الأمريكيون أن أسس إقامة حكومة ديمقراطية وإسلامية في العراق قد نشأت عن غير قصد وأنهم على وشك الاستيلاء على بغداد أيضًا. لذا أعطوا الاشارة الى نظام صدام باتخاذ اللازم .
في ذلك الوقت انتقلت فرقتان من بغداد إلى شمال العراق ، وأخرى من الجنوب إلى هذه كربلاء والنجف ، وفي هذا الصدد استخدمت الأسلحة الكيماوية والقنابل العنقودية لردع الثوار ، وفي بعض المناطق. ، بما في ذلك النجف الأشرف، اطلق ستين صاروخاً سكود أرض- أرض على الثوار في خطوة لم يسبق أن قامت بها أكثر الأنظمة الديكتاتورية. وامتلأت المنطقة بجثث القتلى الذين تركوا في الشوارع عدة أيام وأكلت الكلاب الضالة الكثير منهم في الصحاري. وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عامًا ، ما زالت تُكتشف أسرار المقابر التي اكتُشفت حول مدن المحاويل والنجف وكربلاء والبصرة والسماوة وغيرها .
قمع الانتفاضة جريمة من جرائم الابادة الجماعية
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لماذا لم تحتسب الجرائم التي اقترفها البعث المقبور ضد ثوار الانتفاضة جرائم (إبادة جماعية) اسوة بالكثير من جرائمه الاخرى ؟؟
ومن خلال الأرقام والوثائق التي حصلنا عليها تشير الى الجرائم التالية :
1- قتل الناس على الظن والشبهة .. فيكفي أن يتواجد معارض واحد للسلطة في مكان ما حتى يقدم النظام على قتل الناس في المنطقة.
2- التمثيل بجثث القتلى بعد اعدامهم.
3- قتل الناس وهم جرحى بحجة عدم اتساع المستشفيات لذلك.
4- قتل الشباب أمام ذويهم وأهلهم وترك جثثهم معلقة أمام بيوتهم.
5- قتل المعارضين بربط أيديهم وأرجلهم ووضع ثقل ورميهم في النهر، كما حدث لعدد من المعارضين في الحلة والناصرية وغيرها من المدن. كذلك قتل الشباب بربط كل قدم في سيارة وتسرع السيارتان في اتجاهين مختلفين ليقطع أجزاء الجسم.
6- رمي المعارضين للنظام من علو شاهق بواسطة الطائرات المروحية ليصل إلى الأرض ويقتل.
7- جمع النظام الذين يشتبه بمشاركتهم في الانتفاضة ونقلهم إلى معسكرات الرضوانية جنوب بغداد، وبعد تعذيبهم في هذا المعسكر – وكان هذا المكان قد خصص لكي يلجأ إليه الناس أثناء غارات الحلفاء على بغداد ثم بعدها استخدم لتعذيب المعارضين – ينقل المتهمون إلى معسكر المحاويل (80 كم جنوب بغداد) حيث يلقون بهم في معامل صناعة الطابوق هناك لكي يحترقوا حتى الموت.
8- قتل الأطفال والنساء في البيوت التي يشتبه انها اشتركت في الانتفاضة.
9- اغتصاب النساء والاعتداء على الأعراض. وقتل جنين المرأة الحامل بضربها على بطنها بالسكين ويردد القاتل من القوات الصدامية الخاصة: لا شيعة بعد اليوم. فالقتل من منطلق طائفي، ونفس الشيء تكرر مع النساء الكرديات بحجة أن الكرد متمردون وفي قتلهم الخلاص من شرهم !!.
10- استخدام النظام نساء وأطفال الثوار كدروع بشرية على الدبابات التي كانت تهاجم المدن لكي لا تضرب الدباية من قبل الثوار.
11- استخدام الغازات الكيميائية وقنابل النابالم والقنابل الفوسفورية ضد مواقع الثوار أو لقمع التظاهرات في كربلاء والنجف بشكل خاصة في 8 و9 10/3/ 1991م، وكذلك بقية المحافظات.
12- استخدام النظام سياسة ارهاب الناس وذلك برمي منشورات من الطائرات تهدد بابادة العنصر البشري باستخدام غازات السيانيد والخردل وغيرها من الأسلحة الكيميائية. وقد هجر أكثر من مليوني كردي وتركماني من شمال العراق إلى تركيا وإيران وأكثر من نصف مليون عربي شيعي من جنوب العراق إلى ايران. وكان معدل موت الاطفال من جراء هذه الهجرة مئات الاطفال يومياً.
13- القاء القبض على مرجع وامام المسلمين الشيعة في النجف الأشرف الإمام السيد أبو القاسم الخوئي وأفراد عائلته واخضاعهم للتعذيب والتهديد وامتهان كرامته اثناء لقاء تلفزيوني له مع صدام حسين. كذلك اعتقال العشرات من علماء الدين والشخصيات العلمية في العراق.
14- هدم مقدسات المسلمين في العراق والاعتداء على كرامة هذه المقدسات مثل مرقد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في النجف ومرقد الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) ومرقد حضرة العباس بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) في كربلاء. كما تعرضت قبب المراقد المقدسة للقصف المدفعي.
115- قيام اجهزة النظام بحرق المكتبات في النجف وكربلاء، وهي المكتبات التي تحتوي على كتب ووثائق تاريخية مهمة.
116- استخدام النظام العنصر القومي والعنصر الطائفي في اختيار مقاتلين من قواته في شن هجومهم على الثوار، فمثلاً يرسل مجموعة من القوات الخاصة اليزيدية لمحاربة الثوار الشيعة في كربلاء والنجف، ويرسل مجموعة من القوات الخاصة الشيعية لمحاربة الأكراد السنة في كركوك وأربيل والسليمانية.
17- قصف المدن والقرى بصواريخ أرض أرض وبالمدفعية الثقيلة لمدة من الزمن مما ادى ذلك إلى قتل كثير من الناس وتدمير ممتلكاتهم واحداث الرعب والدمار في البلاد. كما حدث لمدن النجف، كربلاء، الحلة، الديوانية وغيرها.
18- احداث مقابر جماعية في عدة مناطق من العراق وهذا دليل على حملات الاعدام الجماعية والدفن الجماعي للمقتولين.
19- امتهان شخصية المرأة بأن قامت قوات النظام بتعرية النساء قهراً وجعلهن ينمن على بطونهن ليلعب ازلام القمار وهم جالسون على ظهورهن عاريات، وثم قتل المرأة بعد تعذيبها في عدة محافظات والاعتداء على شرفها.
20- قيام قوات النظام بسرقة وسلب البيوت والمتاجر بعد قتل أفراد العائلة أو نهب البيوت أمام اصحابها.
21- بناء عدة سجون تحت الأرض، عزل فيها السجناء عن العالم وحجب عنهم الضوء لعدة سنين مما يخالف وثيقة الامم المتحدة في جنيف عام 1955م والتي أقرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي بقراريه 663ج (د – 24) المؤرخ في 31 تموز 1957م و2076 (د – 62) المؤرخ في 13 آيار 1977م.
22- منع نظام صدام التظاهر او الاعتصام وجعل القيام به جريمة تستحق القتل وهذا يخالف كل قوانين حقوق الانسان المعترف بها دولياً (اتفاقية جنيف 1948م).
23- بسبب اختفاء عدد من الثوار بعد الانتفاضة الشعبانية في أهوار جنوب العراق قرب مدن الناصرية والبصرة، قام النظام بتنفيذ مشروع ابادة الأهوار وتهجير سكانها بحجة مد الطرق إليها وقد قتل وجرح وشرد جراء القصف المستمر عشرات الآلاف من أهالي الأهوار ومن المعارضين للنظام.
24- قام النظام بارسال مخربين من قوى امنه وحزب البعث إلى مناطق تواجد المهاجرين العراقيين الفارين من بطش النظام بعد انتفاضة شعبان 1411هـ داخل وخارج العراق … وقامت مجاميع مرسلة من النظام إلى معسكر رفحاء في السعودية بحرق الخيم والاعتداء على المهاجرين مما تسبب في اضطهادهم وتضيق الخناق عليهم من قبل مضيفيهم
وفي الختام ، وبما ان “العراقيين يحيون هذه الايام الذكرى 31 لاحداث الانتفاضة الشعبانية ضد النظام الدكتاتوري السابق والتي قمعت من قبل السلطات آنذاك بكل وحشية وخلفت مئات الاف من الضحايا ، نؤكد ما ذكرناه في موضوعات سابقة الى ادراج قمع الانتفاضة الشعبانية على لائحة جرائم الابادة الجماعية، فهي “جريمة إبادة منسية” . وعلى الرغم من مرور أكثر من 3 عقود على اندلاعها لا زلنا نرى “ان تبقى تلك الجريمة في طي النسان والاهمال من قبل الجهات الرسمية العراقية والمنظمات الحقوقية والمدنية لتستحق بذلك وصف جريمة الابادة المنسية ..
ونؤكد أيضا على ضرورة قيام الحكومة العراقية والجهات المعنية الى جمع الادلة والمستندات الخاصة بتلك الاحداث وتشكيل فريق قانوني مختص للعمل على ادراج تلك الجريمة على لائحة جرائم الابادة الجماعية ..