أ.د. حسين الزيادي
الوثيقة المرفقة ربطاً تحت تسمية سري وشخصي صادرة من مديرية أمن محافظة ميسان تحت عنوان (مقترح) تحمل العدد ش5/1210 في 4 /5/1986 ومعنونة إلى مديرية الأمن العامة، الوثيقة أسهبت في شرح حالة الطلبة الذين شملهم قرار العفو، وقد تمت مخاطبة دوائر الأمن من قبل كلياتهم ومعاهدهم والاستفسار عن إمكانية عودتهم لمقاعد الدراسة، وقد أجابت مديرية أمن محافظة ميسان بعدم الموافقة على إرجاع بعض الطلبة بناءً على تعليمات سابقة من مديرية الأمن العامة، وقسم آخر رفضت مديرية الأمن العامة إرجاعهم في وقت سابق، وقد لاحظت مديرية أمن محافظة ميسان أن هناك بعض الطلبة لم يراجعوا تجانيدهم؛ لأن أمر إرجاعهم إلى الدراسة لم يتم البت به، وقد يستغرق وقتاً؛ لذلك قامت مديرية أمن محافظة ميسان باستقدام هؤلاء الطلبة وتوقيعهم على تعهدات شخصية أرفقت نسخ منها إلى مديرية الأمن العامة.
هذه التعهدات التي تم الإمضاء عليها من قبل بعض الطلبة جاء فيها تعهد بقيامهم – أي الطلبة- بأعمال معينة لصالح النظام، عَبرت عنها الوثيقة بـ (خدمة العمل الأمني)، إذ يتم من خلال هؤلاء الطلبة اختراق العناصر المعادية، وجعل هذه الخدمة ثمناً لإعادتهم إلى مقاعد الدراسة، بمعنى آخر تسخير هؤلاء الطلبة للعمل كمخبرين سريين مقابل تمتعهم بحقوقهم أو حرياتهم، وتسترسل الوثيقة بالقول إن هؤلاء أبدوا استعدادهم التام للعمل – بحسب تعبير مديرية أمن محافظة ميسان- لكنهم أي الطلبة لم تقع بين أيديهم الحالات المطلوبة، وعند ملاحظتها مستقبلاً سيقومون بالإخبار عنها وتختم الوثيقة سطورها الأخيرة باقتراح من قبل مديرية أمن محافظة ميسان يتضمن إرسال كتب من مديرية الأمن العامة إلى الكليات والمعاهد تتضمن عدم الموافقة على رجاع الطلبة لمقاعد الدراسة، ولا شك أن أفعال النظام لم تكن عرضية أو مؤقتة فهي أساليب ممنهجة للسيطرة على الإنسان من الداخل، وتحويله من كائن فاعل إلى كائن مذعن، محاصر، مستسلم.
يتضح أن موافقة الطلبة إن صحت بحسب تعبير الوثيقة فأنها محاولة منهم للتخلص من المراقبة الأمنية وتقييد الحريات والعودة لمقاعد الدراسة، ولم تكن بدافع الجاسوسية أو تقديم خدمة للأجهزة الأمنية والدليل على ذلك اعتراف مديرية أمن محافظة ميسان بأنه (لم تقع بين أيديهم الحالات المطلوبة)، إذ لم يكن المواطن أمام خيارات حقيقية، فقد كانت سلطة البعث تجعل النجاة عبر الانخراط في منظومة القمع، لكي يتحول الولاء إلى وسيلة إنقاذ وخلاص وسلامة، وكان ذلك مظهراً لمنهجية حكم صُممت لتحاصر الفرد نفسياً، واجتماعياً، ومهنيا، لتفتح له باباً واحداً هو التعاون معها، ولم يعد هناك خيار وسط بين الولاء المطلق والعداء الكامل، فاختيار البعض العمل مع النظام؛ ليس لقناعة، بل طلباً للنجاة، ولعلّ أخطر ما فعله نظام البعث هو تحويل الإنسان الاعتيادي إلى أداة في آلة القمع دون أن يشعر، وهذه البيئة حاول النظام من خلالها إنتاج مواطناً مهزوماً داخليا، لا يجرؤ على الاعتراض بل لا يجرؤ حتى على التفكير.
من الناحية القانونية أن تجنيد المواطنين قسراً للعمل الأمني لصالح السلطة يعد إرهاب دولة يتعارض مع المادة الثامنة من مبادئ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي نصت على عدم جواز استرقاق أحد، وحظر الرق، ولا يجوز إخضاع أحد للعبودية، ولا يجوز إكراه أحد على السخرة أو العمل الإلزامي، أما المادة السابعة عشرة من العهد نفسه فقد نصت على أنه لا يحوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته، ومن حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس.