د. أمل محمد عبدالله
جامعة البصرة
صدر دستور جمهورية العراق المؤقت لسنة 1970 في 16 تموز، بعد انقلاب 17 تموز 1968م الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة. وقد أُعلن هذا الدستور بوصفه دستورًا مؤقتًا، وينظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل حكم الحزب الواحد، لكنه في الحقيقة كان أداة لتكريس السلطة المركزية وتغليب الأيديولوجيا البعثية على مبدأ سيادة القانون. من الناحية الشكلية، تضمّن الدستور أحكاماً حول الحقوق والحريات الأساسية، بما فيها حق الملكية، إلا أن التطبيق العملي انحرف كلياً عن تلك النصوص.
ورد في المادة (16) من دستور 1970م في الفقرتين (ب، ج)
ب- الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية الفردية مكفولتان في حدود القانون وعلى أساس عدم استثمارهما فيما يتعارض أو يضر بالتخطيط الاقتصادي العام.
ج- لا تنزع الملكية الخاصة إلا لمقتضيات المصلحة العامة ووفق تعويض عادل حسب الأصول يحددها القانون.
وهذه النصوص – من حيث ظاهرها – تؤكد مبدأ صيانة الملكية الخاصة، لكنها في الوقت نفسه ربطتها برؤية تُجيز تدخل الدولة في الملكية بحجة المصلحة العامة أو التخطيط الاقتصادي.
ويمكن القول إن نظام البعث فرّغ النصوص الدستورية من مضمونها عبر آليتين:
الأولى: الهيمنة الحزبية على التشريع والتنفيذ والقضاء: فمجلس قيادة الثورة كان يصدر قرارات “ذات قوة القانون” تخالف الدستور، ولا يمكن الطعن بها.
الثانية: استخدام مبدأ المصلحة العامة والتخطيط المركزي لتسويغ المصادرة، فكل نزع ملكية كان يُغلف بخطاب (وطني) في حين كان هدفه الحقيقي سياسياً أو أمنياً.
ويمكن القول إن دستور 1970 منح حماية شكلية فقط للملكية الخاصة، ولم يوفر ضمانات حقيقية بسبب:
- غياب المحكمة الدستورية أو آلية لمراقبة دستورية القوانين.
- إطلاق يد السلطة التنفيذية في إصدار قرارات ذات قوة قانونية.
- هيمنة الحزب الواحد على جميع مفاصل الدولة.
ومن ثم فإن الانتهاكات التي طالت الملكية الخاصة في تلك الحقبة كانت انتهاكات دستورية مقنّعة، أي أنها تمت بغطاء من نصوص أو شعارات رسمية، لكنها في جوهرها مخالفة للحق الدستوري في الملكية.
وسنركز في هذا المقال على المعلومات التي وردت على السلوك الحكومي لنظام البعث في أربعة مجالات محددة: الإجراءات التي تتخذها ضد المجرمين المزعومين، وطرد الذين تدعي أنهم من “أصل فارسي”، والتمييز الذي تمارسه ضد المكون التركماني، وأمور تتعلق بالممتلكات الدينية والثقافية. على الرغم من وجود انتهاكات لحق الملكية ارتكبها نظام البعث في مواطن مختلفة أخرى، مثل:
- حرمان سكان بغداد من التملك بسبب شرط قيد 1957.
- الاستملاكات القسرية في أطراف بغداد وتغيير البنية الديموغرافية.
- التعريب في كركوك ونزع ملكيات الكورد.
- تدمير أملاك الأهالي في الأهوار أثناء تجفيفها أو خلال العمليات العسكرية والأمنية.
- الاستيلاء على أموال الأوقاف الشيعية في كربلاء والنجف بعد الانتفاضة ١٩٩١ خلافاً لقانون الأوقاف.
- تجريف بساتين الدجيل كإجراء عقابي جماعي.
وهذه الحالات جميعها تشكل نماذج لانتهاك الحق في الملكية من منطلقات سياسية وطائفية وقومية وليست فردية فقط.
وبالعودة إلى نماذج الدراسة، ولاسيما فيما يتعلق بالإجراءات التي اتخذتها حكومة نظام البعث في العراق ضد المجرمين المزعومين، بدا أن الممارسة الروتينية هي مصادرة منقولات وعقارات الأشخاص الذين يتهمون بمباشرة أي نشاط اجرامي. وبدا أن ثبوت أو عدم ثبوت التهمة أمام محكمة جنائية وصدور أو عدم صدور أحكام بالإدانة وعقوبات في هذا الشأن من الأمور التي لا أهمية لها بالنسبة لعملية المصادرة. وكدليل على هذه الممارسة التي كانت منتشرة، وفي هذا الصدد، يذكر أحد التقرير بالتحديد أنه “صودرت منقولات وعقارات المجرمين لاشتراكهم في جماعات هدامة مؤيدة لإيران”، بينما يشير تقرير آخر بصفة خاصة التدمير لمنازل أسر من أسموهم المجرمين. وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، من الواضح أن حقوق ملكية الأسر المذكورة قد تعرضت للانتهاك بطريقة تعسفية، ولا يحتاج التأثير البالغ للمصادرة والتدمير المذكورين على أعضاء الأسرة إلى بيان.
وتبلغ عملية المصادرة بعداً يختلف تماما في سياق الممارسة المستقرة منذ زمن طويل لطرد الذين يدعى بأنهم من “أصل فارسي”. وتذكر المعلومات وأقوال الشهود التي وردت أن عملية الطرد تكون مصحوبة عادة بمصادرة جميع المنقولات والعقارات المملوكة للمطرودين. وتمتد المصادرة إلى جانب جميع أنواع الملكية الشخصية، إلى المنازل، والعقارات، والملكية التجارية، بما في ذلك المحلات التجارية. وطرد هؤلاء الأشخاص من البلاد بعد تجريدهم من ممتلكاتهم ومن مصادر رزقهم، دون الحصول على أي شكل من أشكال التعويض.
وعن مسألة التمييز، الذي كان يمارس ضد الشعب التركماني فيما يتعلق بالملكية. فبينما أنكرت حكومة نظام البعث البائد في البداية وجود مثل هذا التمييز قائلة إن “جميع العراقيين يخضعون إلى قواعد قانونية واحدة فيما يتعلق بالتصرف في العقارات” وسوغت بعض “الإجراءات الإدارية” بحجة وقف “الهجرة المتزايدة من المناطق الريفية”.
وفيما يتعلق بالمسائل المتصلة بالممتلكات الدينية والثقافية، أفادت التقارير الموثوق بها عن نزع ملكية الممتلكات المملوكة لطوائف دينية وثقافية ومصادرتها وتدميرها، ولاسيما تدمير الكنائس والمساجد، والمدارس الدينية، ومصادرة الكتب والتحف الفنية، ونزع ملكية العقارات والشركات.
تشير المعلومات إلى وجود انتهاكات عديدة لحقوق الملكية المقررة، بموجب المادة (17) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (التي تنص على أن لكل فرد “حق في التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره” وعلى الحق في عدم “تجريد أحد تعسفا” من ملكه). وعلاوة على ذلك، يجب احترام حقوق الملكية نظرا لاتصالها بالمواد (17 و18 و37) من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والفقرة 1 (أ) من المادة (15) من العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وكذلك من أبرز انتهاكات الحق في الملكية على نحو ما ذكر في المادة (17) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو فيما يتعلق بالمادة (26) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، قد انتهك في حقبة نظام البعث، إذ أشارت أغلبية التقارير الواردة فيما يتعلق بالحرمان التعسفي من الملكية إلى حالات مصادرة أو تدمير أموال منقولة وغير منقولة، وأن ضحاياها لم يتلقوا أي شكل من أشكال التعويض إلا في حالات نادرة جدا. وكثيرا ما كان لعناصر قمع الجماعات التي تعتبر معارضة أو التي تنسب إليها مواقف عدائية بإزاء حكومة البعث دور في تلك الحالات. وإلى جانب التقارير الواردة عن مصادرة الممتلكات وتدميرها، وردت كذلك تقارير عن تطبيق تدابير تمييزية في شراء أو بيع العقارات في بعض المناطق. ويبدو أن العامل المهيمن في هذه الحالات هو السياسة التي أشير إلى اتباعها من قبل حكومة نظام البعث لتعمير بعض المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية أو الاقتصادية بمجتمعات موالية لأيديولوجية الحكومة وسياساتها.
ونقلاً عن (تقرير عن حالة حقوق الإنسان في العراق الذي قدمه ماكس فان دير ستول) قد تضررت مجموعات عدة في الماضي بانتهاكات حقوق الملكية. وكان من بين الضحايا أفراد وأسر، بل وطوائف وقرى كاملة – ممن يعتبرون مذنبين بالتبعية، ويعرضون بالتالي لسياسة عقاب واسعة النطاق. ونفذت بانتظام مصادرة الممتلكات أو تدميرها كعقوبة مسلطة على المجرمين المزعومين. وصودرت كذلك أو دمرت في حالات عديدة الأموال المنقولة وغير المنقولة لأسرهم. وفي موجة الإبعاد التي حصلت في أوائل الثمانينات، جرد جزء كبير من طائفة الشيعة التي قيل إنها “من أصل فارسي” من ممتلكاتهم تعسفا. وفي نهاية ما سمي حملة الأنفال في عام 1988، دمر أكثر من (4000) قرية في شمال العراق المأهول أساسا بالأكراد، مما حرم سكان المنطقة من جميع ممتلكاتهم تقريبا، دون تقديم أي تعويض إليهم. وفي الانتفاضة التي جرت في أوائل عام 1991 وبعدها دمرت المباني الدينية والثقافية التي تملكها طائفة الشيعة واسعة الانتشار في جنوب العراق ووسطه.
وأشارت العديد من التقارير، تدعمها شهادات مباشرة إلى إبعاد قسري لأفراد عدة من الأكراد الفيليين (الشيعة) من وسط العراق إلى إيران في صيف عام 1993، وإن أعضاء هذه المجموعة جردوا كذلك تعسفا من ممتلكاتهم.
وأن الأموال والممتلكات كثيرا ما وضعت في حالات المصادرة تحت التصرف الشخصي للمسؤولين الحكوميين من أزلام النظام البعثي المقبور. ويبدو في حالات عديدة أن رجال الإدارة المحليين وأولئك المشاركين مباشرة في عمليات المصادرة منحوا “حصتهم”. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى الأوامر الصادرة عن المجرم علي حسن المجيد يوم 20 حزيران 1987، قبل حملة الأنفال في عام 1988، التي تقرر بها “أن كل ما يصادره مستشارو وجنود فيالق الدفاع الوطني يؤول إليهم مجانا، باستثناء الأسلحة الثقيلة والمحمولة والمتوسطة”. وينص قرار مجلس قيادة الثورة رقم (680) المؤرخ في 23 تشرين الأول 1989، بصراحة أكبر على أن توزع (40) في المائة من العائدات الناجمة من بيع الممتلكات المصادرة “على الموظفين المتميزين” في مديرية الأمن العامة لما بذلوه من جهد في كشف الخطط التي أدت الى عمليات المصادرة.

ونقلا عن تقرير حالة حقوق الإنسان في العراق، يمكن أن يتضح من الحالات العديدة التي أشارت إليها التقارير منذ عام 1980، حتى ذلك الحين أن ممارسة تدمير الممتلكات ومصادرتها تشكل سياسة حكومية بعثية متعمدة. وقد دعمت هذه التقارير بعدد كبير من الأدلة المادية بالوثائق. ويمكن الإشارة من حيث تدمير الممتلكات إلى الوثائق الحكومية الرسمية العديدة التي تتضمن تعليمات صريحة وتبلغ عن تدمير آلاف المساكن الفردية وتدمير قرى بأكملها. ويلاحظ بالإضافة إلى ذلك أن برنامج الأمم المتحدة الإنساني في العراق، استجاب في جملة أمور لاحتياجات المأوى بسبب مئات الآلاف من الأشخاص الذين دمرت بيوتهم في السنوات السابقة نتيجة ما يسمى برامج “مزج القرى” في الإقليم الكردي الشمالي. وأبلغ الكثير عن معلومات بتنفيذ برنامج مماثل آنذاك في منطقة الأهوار الجنوبية؛ مما أدى إلى تدمير عدد كبير من الممتلكات الخاصة (المنقولة وغير المنقولة). وجرت في كل من شمال العراق وجنوبه عمليات واسعة النطاق لتدمير الماشية وسائر الممتلكات الشخصية. ويشكل قرار مجلس قيادة الثورة رقم (472) المؤرخ في 23 نيسان عام 1985، دليلا على سياسة عمليات المصادرة المتبعة. وهو قرار يقضي بمعاقبة أي موظف مدني، لا يبيع الممتلكات المصادرة في غضون المدة المحددة بالسجن ومصادرة ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة.
المصادر
- الأمم المتحدة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لجنة حقوق الإنسان، الدورة الثامنة والأربعون، البند 12، مسألة انتهاك حقوق الإنسان والحريات الأساسية، تقرير عن حالة حقوق الإنسان في العراق أعده فان دير ستول ،1991/74، 18 فبراير،1992.
- الأمم المتحدة، الجمعية العامة، لجنة حقوق الإنسان، الدورة الثالثة والخمسون، البند 10، تقرير عن حالة حقوق الإنسان في العراق، 1996/72، 14 فبراير 1997.
- الأمم المتحدة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لجنة حقوق الإنسان، الدورة الثالثة والخمسون، البند 10، مسألة انتهاك حقوق الإنسان والحريات الأساسية، حالة حقوق الإنسان في العراق، 1996/72، 21 فبراير، 1997.