banarlogo

مفهوم العمالة في الثقافة البعثية

د. رائد عبيس

 عضو المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف

 

أطلق حزب البعث صفة وتهمة وجرم العمالة بدلالات متعددة، تبعاً لطبيعة التوظيف الثقافي، والأيديولوجي، والسياسي، والقانوني، لهذا المفهوم، وجعل منه مفهوماً حاضراً في جميع خطاباته، ومخاطباته، وتشريعاته، قاصدا بها تلك المعاني الصريحة، أو المضمرة التي يشير بها إلى جمهور الحزب وأعضائه، حتى بات جميع من هم في تشكيلات الحزب يخافون أن تلاحقهم هذه الصفة التي تحولت إلى (جرم) قانوني بتوظيف المادة (156) من قانون العقوبات العراقي، لصالح الدفاع عن سياسة الحزب، وقرارات مجلس ثورته. فما بالك بمن هم خارج الحزب، ومن أحزاب تعد خصوماً، ومنافسين، وعداءً لحزب البعث؟!
أخذت تتسع دائرة هذه التهمة، حين تصاعد حكم حزب البعث، ولا سيما في مرحلة حكم صدام حسين، فكثر معتقلوها، وجُرِّمَ بها طائفة كبيرة من الأحزاب العراقية وجماهيرها، مثل: الحزب الشيوعي، وحزب الدعوة الإسلامية، والأحزاب الكردية، فضلاً عن أفراد، وجماعات، وكيانات، وطوائف، مثل: الكورد الفيليين، والشيعة، وشخصيات وطنية كثيرة، تم اعتقالها، أو نفيها، أو قتلها، نتيجة هذه التهمة التي ساق بها حزب البعث وسوّقها، لتصفية جميع من يشعر بمنافستهم، أو بخطرهم، أو بتهديدهم على سلطة حزب البعث العربي الاشتراكي.
تطرف حزب البعث في تناول هذا المفهوم في أدبياته وسياسته، وجعل من تصنيف خصومه أمراً سهلاً جداً، بمجرد أن يصدر قرار يتهم به أطراف سياسية ودينية معينة، ويجرمهم بها، يبدأ يصنفهم على هذا الأساس.
فبدأ بنشر هذا المفهوم في الصحف، والمجلات، والتقارير، والإذاعة، والتلفاز، والاجتماعات، والمخاطبات الرسمية، والنشاطات الحزبية، فكثف من معاني هذا المفهوم ووسّع من تهمته، وخوّف من تلحق بهم هذه الجريمة؛ فمصير من ينال حكمها هو (الإعدام). فأشبعت الماكنة الإعلامية البعثية من حضور هذا المفهوم في الوعي الشعبي العام، حتى بات تهمة سهلة لكل ذي وشاية، أو عين (مخبر)، أو ذي خصومة للنيل من خصمه.
فكانت واحدة من دلالات هذا المفهوم هي الدلالات العسكرية، إذ استعمال مصطلح (الجيب العميل) وهو مصطلح عسكري بعثي أدخله حزب البعث في سياق المخاطبات، والخطابات الحزبية، والسياسية، والعسكرية، وكان يقصد به المنطقة الكردية التي كانت تخوض صراعاً مسلحاً ضد سياسة حزب البعث تجاه القضية الكردية، ولجأ حزب البعث إلى إطلاق هذه التهمة على المقاتلين الكورد، وسكان إقليم كردستان؛ لتسويغ الهجوم عليهم، وتأليب الرأي الشعبي على الجبهة الكوردية، وتجريم مواقفهم وتخوينهم.
وتوسع هذا المعنى ليشمل أي رقعة جغرافية في العراق تصدر منها مواجهة، أو تمرد، أو عصيان لحزب البعث، فتعد على أنها جيب عميل ويستحق السحق والمواجهة بحملة عسكرية مبيدة، وقد فعل ذلك بجريمة الأنفال في الشمال، وفي جنوب العراق في منطقة الأهوار؛ إذ كانت المعارضة تقاتل حزب البعث هناك.
الدلالة الأخرى لهذا المفهوم هي الدلالة السياسية، ويقصد بها اتهام الأحزاب السياسية الأخرى المنافسة لمشروع حزب البعث والمعارضة له، مثل: الحزب الشيوعي، وحزب الدعوة الإسلامية، وهما حزبان ذكرا في المخاطبات الأمنية، والإدارية، والسياسية، والعسكرية على أنهما حزبان عميلان؛ وفي أسباب هذه التهمة حديث سياسي طويل لا محل لذكره هنا. إضافة إلى الأحزاب الكوردية.
ومن الدلالات الأخرى لهذا المفهوم هو الدلالة القومية، فقد أشار حزب البعث في نص قراره المرقم (461) لسنة 1980، بتجريمه حزب الدعوة بالعمالة بما نصه: (أن حزب الدعوة هو حزب عميل مرتبط بالأجنبي وخائن لتربة الوطن والأهداف ومصالح الأمة العربية…).
علما أن هذا القانون ألغي في قرار مجلس النواب العراقي المرقم (39) لسنة 2007.
ما تحته خط يوضح الدلالة القومية من هذا التجريم، وهذه التهمة، إذ كان يقصد (إيران) في ذلك، على أن حزب الدعوة الإسلامية كان جزءاً من امتداد الثورة الإسلامية في ايران، وعبارة الأجنبي كان يقصد بها الإيرانيين، وقد عرف عن حزب البعث حقده على الإيرانيين – الفرس ـ وكرهه لهم، حتى انتهى الأمر إلى محاربتهم طيلة مدة (8) سنوات.
وقد طبق حزب البعث هذا القرار بأثر رجعي على كل عراقي منتمٍ لحزب الدعوة، وتجريمه من تاريخ انتمائه؛ لا من تاريخ صدور القرار؛ مما يعد تجريماً بالتقادم، ومخالفة في الأساس لدستور العراق المؤقت لسنة 1970.
وفي سياق هذه الدلالة القومية اتجه الحزب إلى تخوين الأحزاب الكوردية والشعب الكردي قاطبة على أنهم خونة وعملاء؛ لأنهم لم ينصاعوا إلى سياسة حزب البعث حينها، وقاوموها، ودفعوا لذلك أغلى الأثمان وأبرزها ضحايا الأنفال.
وإن حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي قد جمع في قراراته، وتعليماته، ومخاطباته الرسمية بين مفهومي: (الرجعية، والعمالة)، بل رادف في دلالاتهما السياسية، مثل : توصيفه لحزب الدعوة على أنه (حزب عميل ورجعي)، وقد ذكر ذلك في تسويغه لانقلاب ( 17 تموز 1968) بالقول: (إن من أسباب التعجيل بالانقلاب هو لقطع الطريق أمام القوى “الرجعية” من الوصول إلى السلطة في العراق). فالعميل في حكم حزب البعث هو رجعي، والعكس صحيح لديه. وعلى الرغم من الدلالة السياسية الواسعة لمفهوم الرجعية إلا أنه ذكر خصوصية لدلالة هذا المفهوم، وبما كان يعنيها بدقة، وهو اتهام لجميع الأحزاب الدينية، وأبرزها حزب الدعوة بالرجعية. وهو ما عرف بمصطلح: (الرجعية الدينية) الذي بينّاه في مقالنا السابق: (مفهوم الرجعية في الثقافة البعثية).
فكان حزب البعث يسترشد للتجريم بجرم (العمالة) من يُسميهم بالرجعيين، بدلالة الانتماء إلى الحزب الشيوعي وإلى حزب الدعوة اللذين جُرِّمَ الانتماء إليهما بدلالة الانتماء الفعلي للحزب، أو بالتعاطف معه، أو بدلالات أخرى، مثل: الصلاة، والتردد على الجوامع، والحسينيات، والمراقد المقدسة، وإطالة اللحية، ودفع الاشتراكات المالية الشهرية، وتداول كتب الحزب، وإصداراته، ومصادره الفكرية، والدفاع عنه، أو عن شخصياته، ومؤسسيه. وقد جرَّم الجميع بالعمالة بدلالة معارضة الحزب، أو عدم الانتماء إليه، أو عدم مجاراة سياسته، أو حتى الاعتراف به.
ومن المؤكد أن إطلاق هذه المفاهيم المليئة بالدلالات الشوفينية تجاه الآخرين كان متأتياً من النزعة الشمولية لأيديولوجيا حزب البعث، وسياسة التفرد بالسلطة، وإزاحة الخصوم، والتفرد بالقرار، وتصنيف الشعب العراقي على أساس الانتماء البعثي، وتوحيد الجبهة البعثية على أسس انتمائية صرفة، وهي ما كانت بداية لتبعيث المجتمع العراقي تحت شعار (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) وهو ما طغى عليه النزعة القومية التي دفعته إلى عمليات تطهير عرقي في العراق بترحيل الكورد الفيلية، وترحيل التبعية الإيرانية، وقطع أي صلة مع الشعب الإيراني، وتجريم من له علاقات معهم بأي شكل من الأشكال، وتحت ذات التهمة والجريمة وهي (العمالة).
فسياسة التخوين، والتهم، والتجريم الذي اتبعها حزب البعث وعاقب عليها ظلماً وعدواناً، كان قد خالف بها كل الشرائع والتشريعات الدستورية، والقانونية المحلية، والدولية. بل ارتكب بها جرائم بشعة بحق الشعب العراقي بسبب جريمة التجريم هذه.