banarlogo

الدراسات العليا في ظل نظام البعث.. بين الكفاءة والولاء السياسي

أ.د حسين الزيادي

 

 

الملحق ربطاً عبارة عن وثيقة سرية رسمية صادرة من مديرية الأمن العامة تحت عنوان – بيان رأي- تحمل العدد 78/ ق7/ 9875 بتاريخ 29/11/1986، ويبدو انها جاءت بناءً على كتاب سابق موجه لها يحمل العدد 13633 في 18/11/ 1986، اي ان المدة الفاصلة بين الاستفسار والاجابة (11) يوماً وهي مدة قصيرة مقارنة بالمعلومات التي احتوتها الوثيقة والأليات المتبعة سابقاً، عموماً تكشف الوثيقة عن رفض طلب المواطن عبد الكريم فرحان عبد الكريم الذي ينوي اكمال دراسته العليا داخل العراق، ولم يذكر الكتاب مستوى الدراسة (الدبلوم او الماجستير او الدكتوراه)، كما ان الوثيقة لم تذكر مجال تخصص الدراسة، ويبدو ان الرفض يشمل كل شخص تتوفر فيه احدى النقاط المذكورة، ولكل التخصصات والمستويات، ولم يكن الرفض بسبب ضعف المؤهلات أو نقص الكفاءة، بل لأسباب تتعلق بالولاء الحزبي والانتماء السياسي وهذه الاسباب كما تم ذكرها في الوثيقة السرية هي:-
  1. كونه مستقل سياسياً، اي لا ينتمي لحزب البعث.
  2. شقيقه (رياض) شيوعي ولم يرتبط ضمن ما يُسمى النشاط الوطني.
  3. أولاد خالته (كل من مؤيد وخليل) أُعدموا سابقاً كونهم من العناصر الشيوعية.
  4. شقيقه علي مهندس مقيم في إنجلترا (ويُعد هذا – بنظر النظام – مؤشراً على عدم الولاء او عدم الثقة).

 

 الوثيقة الملحقة تبين بوضوح ان هناك تداخلاً عميقاً بين المسار الأكاديمي والولاء السياسي، إذ اصبح هذا الحق خاضعاً للموافقات الأمنية والحزبية، فالشخص الذي لا يدين بالولاء للحزب أو كان ضمن اقرباءه وحتى الدرجة الرابعة معدوم او معارض او خارج العراق لم يكن من حقه اكمال دراسته العليا، بينما يُفترض أن يكون التعليم العالي، وخاصة الدراسات العليا، قائما على أسس الجدارة العلمية والكفاءة الاكاديمية الأمر الذي حول الحق في اكمال الدراسة العليا إلى امتياز سياسي مشروط بالولاء، مما أثّر بشكل مباشر على إمكانية اكمال الدراسة للعديد من المتقدمين المؤهلين، وهذه الرؤية التي تقوم على اساس تسييس المنظومة التعليمية تبناها نظام البعث منذ توليه السلطة، فلم يعد النظام التعليمي مجرد أداة للتنمية المعرفية، بل أصبح وسيلة لتثبيت الهيمنة الأيديولوجية وترسيخ الولاء الحزبي، وهذا الواقع وضع كثيراً من الطلبة المؤهلين أكاديمياً في موقع الإقصاء أو الإهمال، لصالح مرشحين أقل كفاءة لكن يتمتعون بانتماء حزبي قوي أو علاقات نافذة.
الجدير ذكره ان الأنظمة الداخلية للجامعات لم تكن تنص رسمياً على شروط حزبية للقبول في الدراسات العليا، إلا أن الواقع العملي أفرز نمطاً واضحاً من التمييز الممنهج وهو ما اشارت اليه الوثيقة المرفقة ربطاً التي يتضح من خلال تحليل مضمونها ان هناك لجنة في مديرية الأمن مكلفة بالنظر في فرز اسماء المتقدمين للدراسات العليا، ونتيجة الربط بين الولاء الحزبي والحق في الدراسة العليا حصل العديد من الطلبة الموالين لحكومة البعث على امتيازات غير معلنة، مثل تجاوز شروط المعدل، أو تسهيل القبول في اختصاصات معينة، أو تأمين بعثات مرموقة لدول اجنبية.
ان كل من اكمل دراسة البكالوريوس في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي يلحظ بوضوح ان هناك تحيز مناطقي في نسبة حملة الشهادات العليا مما خلق انحرافاً واضحاً في التوازن الجغرافي داخل الجامعات، إذ لم تكن الشهادة العليا مرهونة بالكفاءة فحسب، بل خاضعة لمعادلة الولاء والجهوية والانتماء، الأمر الذي أفضى إلى جملة من الآثار السلبية، ابرزها تراجع المستوى الأكاديمي، إذ حصل غير الأكفاء على فرص دراسية بسبب انتمائهم الحزبي والجهات التي ينتمون لها، بينما أُقصيُ المتميزون المستقلون، وهذا الأمر لا يعد مجرد مظهر من مظاهر الفساد الإداري فحسب، بل هو تعبير عن مشروع شمولي هدفه تطويع العقل الأكاديمي لخدمة السلطة.
اما بشأن القراءة القانونية في حق التعليم ووفقاً للمواثيق والاتفاقيات والاعلانات الدولية فيتضح ان هناك وضوح في النصوص الدولية، فهذا الحق ليس امتيازاً تمنحه السلطات وفق أهوائها، بل هو حق إنساني أصيل تكفله الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، وحرمان الأفراد من هذا الحق لأسباب سياسية أو منطلقات أمنية يُعد تمييزاً غير مشروع وانتهاكاً للقوانين الدولية، وبشأن فصل هذا الحق عن الولاءات والانتماءات، فقد نصت المادة الاولى من الاعلان العالمي لحقوق الانسان على ان جميع الناس متساوين في الكرامة والحقوق، ونصت المادة الثانية على ان لكلِّ إنسان حق التمتع بجميع الحقوق المذكورة في هذا الإعلان ومنها حق التعليم، دونما تمييز بسبب الرأي والاتجاه السياسي، وفي المادة (26) نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن: لكل شخص الحق في التعليم، ويكون التعليم العالي متاحًا للجميع على أساس الكفاءة، وهنا يرسّخ الإعلان مبدأ تكافؤ الفرص، ويمنع ربط التعليم بأي تمييز سياسي أو اجتماعي، اما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فقد نص في المادة (18) على حق الانسان في التعليم، وهذا النص ملزم قانوناً للدول المصادقة عليه والعراق واحداً منها، اما المادة (26) من العهد فقد نصت على حظر أي تمييز و لأي سبب كان، كالعرق أو اللون أو الرأي السياسي، اما مبادئ الأمم المتحدة بشأن عدم التمييز في التعليم فقد أصدرت اليونسكو اتفاقية عام 1960 لمناهضة التمييز في التعليم، أكدت فيها: عدم جواز منع أي فرد من التعليم لأسباب تتعلق بالآراء السياسية، اما الدستور العراقي المؤقت لعام 1970 فقد نص في الباب الثالث الخاص بالحقوق والواجبات الأساسية تكافؤ الفرص لجميع المواطنين مضمون في حدود القانون.
فضلاً عما تتضمنه الوثيقة المرفقة من مخالفات فأنها تتعارض تماماً مع مبدأ مهم من المبادئ القانونية والدستورية، وهو مبدأ شخصية العقوبة، اذ نصت المادة الحادية والعشرون من دستور العراق 1970 على أن: أ ـ العقوبة شخصية ولا تجوز العقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون جريمة في أثناء اقترافه، فهذا المبدأ دستوري، وليس قانوني فقط، وهذا يعني أن العقوبة يجـب أن توقـع علـى مرتكب الجريمة وحده، ولا يجوز أن يتعدى ذلك إلى أفراد أسرته- في حال افتراضنا لشرعية العقوبة- ووفقاً للمعايير الدولية فسريان العقوبة يتعارض مع الأعراف والمواثيق الدولية، ومنها الملحق الثاني الإضافي إلى اتفاقيـات جنيـف عام 1977، وتحديداً في المادة السادسة المتعلقـة بالمحاكمـات الجنائية التي تنص في أحد بنودها على : أن لا يدان أي شخص بجريمة إلا على أساس المسؤولية الجنائية الفردية، وتأسيساً على ما تقدم يتضح الوثيقة المرفقة تحمل في مضمونها مخالفات قانونية ودستورية متعددة ومتداخلة.