banarlogo

قلب مفجوع

م.م. عبدالخالق هادي علي الحسيني

 

 

إن العراق مهد الحضارات، وملتقى الأنهار، عرفَ عبر تاريخه الطويل ملوكاً واحتلالات وانتصارات وانكسارات، لكنه لم يعرف حقبة أشد قسوة على قلبه وروحه من تلك السنوات التي سيطر فيها حزب البعث المقبور على مقاليد الحكم، سنوات كانت فيها سماء الوطن مليئة بالخوف وأرضه مثقلة بدماء الأبرياء، وقلوب أبنائه مفجوعة على أحبة غيّبتهم السجون، أو غيّبهم الموت غدراً.
منذ وصول حزب البعث إلى السلطة في انقلاب 17 تموز من عام 1968 بدأت ملامح الدولة البوليسية تتشكل، لأنها قائمة على القمع وتقديس الحاكم، وهنا أصبحت السلطة غاية في ذاتها؛ لأنها أخضعت مؤسسات الدولة كافة لخدمة بقاء الحزب وزعيمه الديكتاتور؛ ولأجل هذا الهدف لم يكن هناك خط أحمر أمام أجهزة الأمن والمخابرات التي تحولت إلى أدوات رعب منظمة عبر استخدامها جميع الأسلحة والأدوات القمعية.
إن القمع السياسي كان الركيزة الأولى في منظومة حكم البعث؛ إذ استهدف من اختلف في الرأي أو حتى من تجرّأ على النقد، وأيضا كان مهددا بالاختفاء القسري أو الإعدام، وفي هذه المنظومة لم تميز يد القمع بين مثقف أو طالب، وبين شيخ أو شاب، ومع مرور السنوات أصبحت السجون مثل (سجن أبو غريب) و(سجن نقرة السلمان) رمزا للخوف والرعب؛ إذ مورس التعذيب بأبشع صوره مثل (الصعق بالكهرباء والتعليق لفترات طويلة والضرب المبرح وحتى التصفية الجسدية داخل المعتقلات).
إضافة إلى ذلك تبنى حزب البعث سياسة التطهير العرقي والطائفي؛ فمارس التهجير القسري بحق آلاف العوائل الكردية والتركمانية والشيعية بدعوى تطهير الوطن من الغرباء، وكانت هذه السياسات تهدف إلى تغيير البنية السكانية لمناطق بأكملها، وضمان الولاء المطلق للحزب المقبور.
وإن هذه المنظومة مارست أبشع الجرائم مثل حملات الأنفال في أواخر الثمانينيات التي استهدفت المناطق الكردية شمال العراق، ولم تكن هذه الحملات مجرد عملية عسكرية فحسب، بل كانت إبادة جماعية موثقة؛ إذ قام هذا النظام باستخدام السلاح الكيمياوي الذي خلف مجزرة حلبجة عام 1988، إذ اختنق آلاف المدنيين بغازات سامة في ساعات قليلة بينهم نساء وأطفال وشيوخ، وكانت مشاهد الجثث الممددة في الشوارع والبيوت أكبر شهادة على وحشية تلك المرحلة.
وإن الوسط الشيعي لم يسلم من بطش هذا النظام خاصة بعد انتفاضة آذار 1991 التي اندلعت بعد انسحاب العراق في حرب الخليج الثانية؛ فقد رد بقوة مفرطة مستخدما الطائرات والمدفعية لقمع المدن المنتفضة مثل النجف الأشرف وكربلاء والبصرة، حيث امتلأت المقابر الجماعية في الجنوب بضحايا تلك الحملة التي خلفت مئات الآلاف من المدنيين بين قتيل وجريح، ولا يزال كثير منهم مغيباً حتى يومنا هذا.
وكان الاغتيال السياسي سلاحا مفضلا لدى هذه المنظمة؛ إذ لم يتردد البعثيون في ملاحقة المعارضين حتى خارج البلاد، مستهدفين المثقفين والسياسيين في المنفى مثل أوروبا ودول الجوار وكان الهدف واضحا وهو (ألا يشعر أي معارض بالأمان أينما كان).
إلى جانب القمع المباشر مارس هذا النظام المجرم سياسة التجويع الاقتصادي بحق أبناء الشعب، خاصة بعد فرض العقوبات الدولية في التسعينيات (الحصار)، بدل أن يوجه موارد الدولة لتخفيف المعاناة قام باستغلال الحصار لترسيخ سلطته؛ إذ قام بتوزيع الغذاء والدواء على وفق الولاء السياسي له، وجعل الاحتياجات الأساسية أداة للابتزاز.
لقد تركت هذه المنظمة البعثية القذرة ندوبا عميقة في وجدان العراقيين؛ لأن ملايين الأمهات فقدن أبناءهن وأجيال كاملة نشأت وهي تحمل إرث الخوف والصمت، وكان العراقي في تلك السنوات يعيش بين خيارين أحلاهما مر، إما أن يصمت ويتحمل الظلم، أو أن يرفع صوته ويخاطر بحياته وحياة أسرته وحتى أقاربه.
اليوم وبعد مرور أكثر من عقدين على سقوط هذه المنظومة المجرمة في عام 2003 ما زالت آثار تلك المرحلة ماثلة أمامنا؛ حيث السجون التي تحولت إلى متاحف للذاكرة، والمقابر الجماعية التي تروي صمت حكايات المفقودين، وأرشيفات المخابرات التي تكشف عن حجم المراقبة والتجسس على حياة الناس، هذه الشواهد ليست مجرد صفحات من الماضي، بل هي دروس دامية يجب أن تحفظ للأجيال القادمة.
إن قلب العراق مفجوع ليس فقط على من رحلوا ضحايا للبطش، بل على أعوام طويلة ضاعت من عمر الوطن تحت حكم استبدادي، حوّل أرض الرافدين إلى ساحة خوف وموت، لكن هذا القلب رغم جراحه ما زال ينبض بالأمل، فالشعوب التي تتذكر ماضيها وتواجهه بصدق قادرة على أن تبني مستقبلاً أكثر عدلاً وإنسانية.
ختاما لا يمكن الحديث عن تلك الحقبة من دون أن نستحضر مسؤولية التوثيق والذاكرة، فالتاريخ ليس مجرد روايات، بل أمانة يجب أن تنقل كما هي بكل آلامها؛ حتى لا تتكرر المأساة.
(قلب مفجوع) ليس مجرد عنوان لمقالة فحسب، بل هو وصف لحالة وطن عاش الجرح بكل تفاصيله ويأمل ألا يعرفه مجددا.