د. رائد عبيس
عضو المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف
اتخذ حزب البعث في العراق من سياسة المنع للشعائر الحسينية ذريعة لممارسة نشاطه الإجرامي بحق الطائفة الشيعية من العراقيين ومن غير العراقيين، وأعدّ لذلك حزمة من الإجراءات المشددة بحق الشعائر الدينية، وأبرزها الشعائر الحسينية، سواء على مستوى المسيرات الحسينية، أو مجالس العزاء، أو مسير الأربعين ” المشّاية “، وشعيرة التطبير، والزيارات، والطبخ، وغيرها من الشعائر المرتبطة بالمناسبات الدينية الخاصة بالطائفة الشيعية.
وكان من هذه الإجراءات:
-
قرار منع إقامة المجالس الحسينية الذي يصدر سنوياً عند اقتراب شهري محرم وصفر.
-
قرار منع مسيرة الأربعين ” المشّاية “.
-
قرارات منع التجوال بين المحافظات في حالة الذروة.
-
تشديد الإجراءات في منع سيارات النقل من نقل الزائرين.
-
منع إقامة مواكب الطبخ.
-
إركاب الزوار الذين يتوجهون إلى كربلاء بالسيارات، ومنعهم من المسير.
-
اعتقال الزوار وتقديمهم للمحاكم لخرقهم هذه القرارات.
فعند عمليات الاعتقال، وتسيير المعتقلين من الزوار إلى المحاكم، تصدر بحقهم قرارات الحبس، والسجن البسيط والشديد، وبعضهم تصل عقوبتهم إلى الإعدام نتيجة مواقف تحصل حين الاعتقال أو المحاكمة، مثل: استهانة بعض المعتقلين من الزوار بقرارات الحزب، أو إظهار الشدة في المواقف الدينية من الحزب، أو إهانة صدام، أو الاعتداء على أعضاء الحزب البعثية، أو العناصر الأمنية البعثية التي تمارس عملية الاعتقال، أو بسبب العود، فتصدر على مثل هؤلاء أحكام متشددة؛ نتيجة لتحدي هذه القرارات بدوافع عقائدية، وسياسية بحتة.
بعد عمليات الاعتقال والحبس يقوم مجموعة من السجناء من الزوار أو غير الزوار بعقد مجالس دينية وأبرزها المجالس الحسينية داخل السجون في شهري محرم وصفر وسط حالة من الترقب والخوف والحذر من متابعة ورقابة السجانين. يتم عقد هذه المجالس إما بشكل رمزي، إذ يقتصر الأمر على ذكر مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) في محاضرة قصيرة ومختصرة، أو تتطور إلى مجالس لطم وهتافات وغيرها. أو مجالس شعرية؛ إذ يقرأ من يجيد كتابة الشعر أو من يحفظ الشعر أمام مجموعة من السجناء لاستذكار هذه المناسبة، وهنا يتدخل عناصر السجن لإيقافهم بالضرب أو بتشديد الإجراءات عليهم، أو عزل بعضهم في سجون انفرادية، أو تعذيب بعضهم. وفي كل الحالات هناك تشديد تام على عدم إقامة أي مجلس حسيني داخل السجون؛ لا في سجون الرجال ولا في سجون النساء. ومع هذا التشدد إلا أن هناك من يجازف من السجناء في إقامة هذه المجالس داخل السجون مع علمهم بما يتعرضون له من تعذيب ومخاطر نتيجة هذا الأمر.
يتأتى هذا التطرف البعثي في منع أي مجالس حسينية داخل السجون امتداداً لقراراته، وإجراءاته، وتعليماته النافذة، في هذا الأمر لما هو خارج السجون. مع تشديد خصوصية الموقف داخل السجون لما لها من قواعد سلوك مفروضة بحق وبغير حق على سجناء الرأي، وحرية المعتقد وغيرهما. فضلاً عن تطرف عناصر البعث داخل هذه السجون من غير الشيعة طائفياً تجاه هذه المجالس، فطالما يتعرض سجناء المذهب الشيعي من الذين يتصدون لإقامة المجالس الحسينية داخل هذه السجون إلى سب معتقدهم وإهانة مقدساتهم، وشتم الأئمة (عليهم السلام)، فضلاً عن اتهامهم بالتخلف، والرجعية، والكفر، والانحراف. ومن يواجه من السجناء هذه الإهانات، وهذا التنكيل بالمعتقد يتعرض لشتى أنواع التعذيب الذي يُوصل بعضهم إلى الموت.
يذكر السيد حسن شبر في كتابه (صفحات سوداء من بعث العراق) موقفين في هذا الصدد، الأول: (طلب مني عناصر البعث في السجن أن أسب الإمام الكاظم (عليه السلام)… وحين رفضت قالوا سوف نضرب رأسك بالحائط… ولم استجب لهم، وطلبوا مني أن ألعن أبا حنيفة… [ كطريقة للاستدراج الطائفي] فرفضت، فصوب علي أحدهم المسدس ليقتلني… فقرأت الشهادة وحاولت أن أتوجه للقبلة… إلا أنه عدل عن ذلك… وكانوا أيضا لا يعطوني الطعام الذي يجلب لي من أهلي إلا بسب الإمام الكاظم (عليه السلام)، إلا أني أمتنع عن استلامه، وأرفض هذه المساومة، وهذا الطلب السخيف). والموقف الثاني: طلبوا مني أن أترحم على يزيد، وقالوا لي لماذا تكره يزيد، قلت لهم لأنه قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، فقالوا لي أن لم تترحم على يزيد لن تخرج من السجن – وكان حينها يُهيَّأ إلى إكمال متطلبات الإفراج عني – فعند امتناعي عن الترحم على يزيد، تعرضت لضرب شديد من قبل ستة من الجلاوزة تناوبوا عليّ جميعهم. (انظر الكتاب أعلاه، ص 101-115).
تكثر مثل هذه المواقف مع السجناء الشيعة في شهري محرم وصفر، إما بسبب دخول سجناء جدد إلى المعتقلات والسجون، أو بسبب طبيعة النشاط الديني العقائدي الذي يمارسونه السجناء عند ذكر هذه المناسبة.
تروي باسمة السعدي في روايتها (مذكراتي من سجن الرشاد) جزءاً من هذه المواقف التي يتعرضن لها النسوة في سجون البعث، حين إقامة مجالس حسينية داخل السجن، وسط هذه المخاوف والمخاطر. بالقول: كان يسمح لنا في سجن الرشاد بإقامة مجلس عزاء حسيني في شهري محرم وصفر، في داخل السجن أو صالات المشغل، أو ساحات القسم النسوي السياسي، بقراءة ما نحفظ من مرثيات أو لطميات، وقصائد حسينية، ويسمح لنا بلبس السواد، وإدخال الملابس السوداء حين يجلبها أهالي السجينات، وإشعال الشموع يوم العاشر من محرم، بل حتى نطبخ (التمن والقيمة) بما يتيسر من مواد غذائية… ولكن تم حظر إقامة مجالس العزاء الحسيني وحظر اللباس الأسود، وازدادت إجراءات المنع في كل شيء، فكنا نقيم المجالس الحسينية بالخفاء، وسط مخاوف وقلق وحذر من الرقيبات، ومن يكتشف أمره يُعاقب بمنع مواجهة الأهل، واستلام الطعام، والأشياء منهم، فضلاً عن التحقيق والتعذيب. (ينظر ص 146-153).
ويذكر جبار آل مهودر في روايته (القضبان لا تصنع سجناً) جزءاً من هذه المواقف وشبيهاتها في تحدي إزلام البعث وزمره الإجرامية للقضية الحسينية والحسين (عليه السلام)، وكأن عداءهم له شخصياً! فكان سجانو البعث وضباطهم ومحققوهم كثيراً ما يكررون السؤال على السجناء من الشيعة والزوار بسؤالهم الملح (تحبون صدام حسين…. أم تحبون الحسين؟)، وسط هذا السؤال المقارن يتحججون على السجناء ليختاروا لهم طرق تعذيب تليق بإجابتهم أو اختيار طريقة للموت، أما بالشنق أو القتل بالرصاص، أو الموت بالركل والتعذيب!
أما من يطلق سراحه: فيلزم بكتابة تعهد قانوني بعدم إحياء المراسيم الحسينية بالطبخ، أو المشي، أو إقامة مجالس العزاء.
ومع هذا المنع والخوف والتشدد، هناك من تصدى طواعية تحت تأثير الإيديولوجيا البعثية والتطرف في الولاء لهذا الحزب المجرم، ليعاهدوا أنفسهم ويعاهدوا حزب البعث، ويعاهدوا صدام حسين على أنهم لن يزوروا الحسين قط، ويمنعون من يزوره!
الطبيعة القانونية المحلية والدولية في انتهاك هذا الحق للسجناء والطلقاء:
في قانون مصلحة السجون المرقم 151 لسنة 1969، مادة / 2 التي تنص على أن (تنشأ بموجب هذا القانون مصلحة تسمى مصلحة السجون تتولى إدارة السجون على نحو يستهدف إصلاح السجناء وتأهيلهم سلوكيا وثقافيا ومهنيا). وما تعرض له السجناء العقائديون في سجون البعث قبل مرحلة البعث الصدامي وبعد حكمه في 1979 لم يختلف حال السجناء العقائديين فيه عما لحقه بعد إصدار قانون المؤسسة العامة للإصلاح الاجتماعي رقم (104) لسنة 1981. فلم تتحقق فيه المصلحة الفعلية من تشريع هذا القانون، الذي يهدف إلى التأهيل السلوكي والثقافي والمهني، بل كان يقصد تأهيلهم بعقيدة البعث، لثنيهم عما يعتقدون فيه وسجنوا لأجله. وهذا ما كان طبقا لما جاء في المادة الثانية / ثانيا من قانون (104) لسنة 1981 التي تنص على (وضع المناهج الثقافية الوطنية والقومية والتوعية الدينية لتثقيف النزلاء والمودعين وتوعيتهم بما ينسجم وأهداف الثورة التي يعمل حزب البعث العربي الاشتراكي على تحقيقها).
أما المادة (27) من القانون نفسه تنص على أن (يعين رئيس المؤسسة عددا من الوعاظ الدينيين والمدربين المهنيين في قسم الإصلاح الاجتماعي ممن تتوفر فيه المؤهلات اللازمة، وذلك حسب مقتضيات الحاجة). فإذا كان هناك من وعاظ فهم يثقفونهم على قضايا طائفية مما سبق ذكره التي تطلب منهم سب أمام أو خليفة أو صحابي، أو المطالبة بالولاء والاحترام لشخصيات يروج لها البعث طائفيا. وهذا انتهاك واضح لحق الولاء، والاعتقاد الديني، والحريات الشخصية العقائدية، وممارسة شعائرهم من دون قيود. وقد نصت اللوائح الدولية على أن (ينبغي ألا يُفرض على السجناء مقابلة رجل الدين إذا كانوا لا يرغبون في ذلك). (ينظر: دليل تدريب موظفي السجون على حقوق الإنسان، ص 95، 2004).
فما حرمه البعث وقيده وجرمه خارج السجون، فمن باب أولى أن يحرمه ويجرمه ويقيده داخل السجون، وما كان يشكل انتهاكا لحق الأفراد في خارج السجون، فهو يشكل انتهاكا لحقهم داخل السجون أيضاً.
وأن البعث كان يعد خرقاً لقانون وقرار وتعليمات منع زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ومنع إقامة شعائره داخل السجون وخارجها بمثابة تهديد لأمن الدولة؛ لذلك منعوا السجناء العقائديين من حقهم في المادة 35/ الفقرة / أولا، منها التي تنص على حقهم في زيارة منزلية كل (3) أشهر مرة.
جاء في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بما يضمن حق هذه الطقوس الدينية والشعائر والمراسيم في المادة (18) في الفقرة الأولى والثانية منها التي تنص على الآتي:
-
لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة وأمام الملأ أو على حدة.
-
لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره.
أما المادة (19) تنص على ما يشير إلى انتهاك حزب البعث حق الطائفة الشيعية في حرية التعبير عن عقيدتها بما يأتي:
-
لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة.
-
لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
أما المادة 20/21 التي تنص على ما يخالف إجراءات حزب البعث الصدامي في التنكيل بحق الطائفة الشيعية في ممارسة حقها بإظهار ولائها الديني بشكل سلمي بما يأتي:
المادة 20: الفقرة الثانية: (تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف). وما أشرنا إليه في أعلى المقال تحريض واضح على الكراهية، والازدراء، والمضايقة.
المادة 21:نصت على: يكون الحق في التجمع السلمي معترفا به. وهذا مكان محظوراً، وممنوعا، بالقرارات، والأوامر، والتوجيهات الصدامية في التضييق على الطائفة الشيعية من ممارسة حقها في إقامة المجالس الحسينية في خارج السجون أو داخلها.
أما على وفق ما جاء في القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء التي تعرف بقواعد نيلسون مانديلا في القاعدة (41) منه، فتنص على الانتهاك الحقيقي لما ارتكبه البعث الصدامي من خروقات في هذه التفاصيل المشار إليها في نص هذه القاعدة، وهي كالآتي:
-
إذا كان السجن يضم عدداً كافياً من السجناء الذين يعتنقون نفس الدين، يعين أو يقر تعيين ممثل لهذا الدين مؤهّل لهذه المهمة. وينبغي أن يكون هذا التعيين للعمل كل الوقت إذا كان عدد السجناء يبرر ذلك وكانت الظروف تسمح به.
-
يسمح للمثل المعين أو الذي تم إقرار تعيينه وفقا للفقرة (1) أن يقيم الصلوات بانتظام وأن يقوم، كلما كان ذلك مناسبا، بزيارات خاصة للمسجونين من أهل دينه رعاية لهم.
-
لا يحرم أي سجين من الاتصال بالممثل المؤهّل لأي دين. وفي مقابل ذلك، يحترم رأى السجين كليا إذا هو اعترض على قيام أي ممثل ديني بزيارة له.
-
يسمح لكل سجين بقدر ما يكون ذلك في الإمكان بأداء فروض حياته الدينية بحضور الصلوات المقامة في السجن وبحيازة كتب الشعائر والتربية الدينية التي تأخذ بها طائفته.