د. عباس القريشي
في يوم 8-8-2025م أي قبل يومين، وعلى رصيف المعرض الوثائقي الذي أقامه المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرّف، حيث تتعانق الصور مع الذاكرة، وقفتُ أتمعّن في ملامح الزائرين، وإذا برجل يكسوه الوقار، ويمتزج في عينيه بريق الصبر مع ظلّ الألم، اقترب مني، فابتسم ابتسامة هادئة تخفي وراءها سنين من القهر، كأنه حمل على كتفيه حكاية لم تكتبها الصحف، بل حفرها الزمن في قلبه.
وقال: أنا أبو محمد، فقلتُ: أهلا حاج قاسم، تفاجأ قائلاً كيف عرفت اسمي؟!
أجبته لأنك أبو محمد، فضحك؛ وقال هل تعلم أنا من الأكراد الفيليين أحد ضحايا إجرام نظام البعث، وأخرج هويته التي أخذها من مؤسسة السجناء السياسيين.
وقفنا وسط المعرض، يحيط بنا صخب الزائرين، وبدأ يسرد فصول سجنه التي امتدت ثلاث سنوات وشهرين بلا محاكمة، بلا جريمة سوى أنه كان من قومية أراد طغيان البعثيين محوها.
تكلم كيف كان يتنقّل بين معتقل الشعبة الخامسة، ومعتقل القوة الجوية، وسجن رقم واحد؛ إذ لكل مكان رائحة قهر، ولكل جدار صرخة عالقة فيه.
حدّثني عن أساليب التحقيق التي تفوق الخيال قسوةً ومكراً، وكيف كان المحققون يقسمون كذباً بأن المتهم سيفرج عنه غداً إذا اعترف وذكر أسماء آخرين. شاهد بأمّ عينه كيف خُدع أحد المعتقلين، فذكر أسماء أكثر من مئتي بريء، جاءوا بهم جميعاً، وأُعدموا معه.
ارتجف صوته وهو يصف مشاهد التعذيب عبر التيزاب؛ وكيف كانوا يحضرون المعتقل، ويرمونه في حوض من الحمض، فلا يبقى منه سوى شعر رأسه، يُعرض أمام بقية السجناء لترهيبهم ودفعهم للاعتراف.
وروى كيف كان البعض يُرمى في حفرة مليئة بالغائط حتى العنق، ويُتركون فيها ثلاثة أيام كاملة حتى ينهاروا ويعترفوا بما يريد السجّان.
ومع كل هذه الفصول السوداء، لم يكن أبو محمد يروي بلسان الشكوى، بل بلسان شاهدٍ للتاريخ، يدرك أن الحكاية إذا لم تُروَ ستضيع كما ضاعت أجساد في المقابر الجماعية. قال لي بصوت خافت: “السجن أخذ مني العمر، لكنه لم يأخذ مني إيماني بأن الحق باقٍ مهما طال الليل”.
غادر المعرض وكلمات صوته في أذني كأمانة، وصورته في ذاكرتي كجزء من واجبنا تجاه من عاشوا القيد ليحيا الوطن حراً.
في ذلك الركن من المعرض، أدركت أن التاريخ لا يُقرأ فقط في الكتب، بل يُسمع من أفواه من عانقوا الجدران الباردة وصافحوا الموت، ثم خرجوا ليحدّثونا… كي لا ننسى.