د. قيس ناصر
في سياق الفهم السياسي، هنالك علاقة تبادلية بين الدين وتماسك الجماعة، فليس تماسك الجماعة فقط هو ما يزيد من تأثير الدين، إنما شعائر الدين هي الأخرى تسهم في تماسك الجماعة، وهذا ما يمكن ملاحظته مع أغلب الأديان، إذ تكون الشعائر وسيلة لتماسك الجماعة، ومن ثم أي استهداف لتلك الشعائر هو استهداف للجماعة وتماسكها.
وعلى الرغم من أن الاحتفاء بالإمام الحسين (عليه السلام) وموقفه غير مقتصر على دين أو مذهب؛ لأنه صرخة كونية ضد الاستبداد، إلا أن إحياء ذكراه بشكل مباشر اختص به أتباعه الشيعة، وباتت شعائر إحياء الذكرى جزءاً من هويتهم، ومن ثمّ، عبر أزمان مختلفة، كان استهداف إحياء ذكرى عاشوراء وزيارة الأربعين شكلاً من أشكال استهداف الشيعة سواء في العراق أم في أماكن أخرى من العالم.
وفي السياق العراقي، يذكر شيركو كرمانج أنّ سياسات البعث التمييزية ضد الشيعة والقيود التي فرضت على شعائرهم ومنشوراتهم الدينية وإغلاق العديد من مؤسساتهم أسهمت بابتعاد الشيعة عن نظام البعث، وعززت من ترابطهم فيما بينهم داخل العراق. والبعثيون في سياستهم هذه لم يدركوا مكانة الشعائر الحسينية لدى الشيعة، وهذا ما يتبين من خلال دراساتهم السطحية التي أنجزتها لجانهم التي شُكلت لدراسة الشعائر، وسيأتي الحديث عنها في سياق سلسلة المقالات التي يقدمها الباحث.
ويمكن القول إن استهداف البعثيين للشعائر الحسينية كان ضمن خطة شاملة لاستهداف التشيع في العراق، وهذا موضوع فيه تفصيلات كثيرة؛ لأنه بحاجة إلى فهم موقف البعث من الدين أولاً وموقفه من المذاهب الإسلامية ثانياً، وموقفه من التشيع ثالثاً؛ لذا سعى المقال إلى دراسة سياسة نظام البعث تجاه الشعائر الحسينية في العراق بوصفه مقدمة عامة، من خلال تقسيم فهم سياسة نظام البعث تجاه الشعائر الحسينية في العراق على ثلاث حقب، الحقبة الأولى ما قبل 1979م والحقبة الثانية ما بعد 1979م من ثم حقبة ما بعد الانتفاضة الشعبانية 1991م، كذلك تحرك المقال لفهم سياسة البعث في استهداف الشعائر الحسينية وفق ثلاثة مسارات:
الأول/ مسار البعثيين في تشكيل لجان بعثية لدراسة الشعائر الحسينية وطرق القضاء عليها أو مواجهتها على وفق نتائج اللجان، وذلك بالاستناد إلى دراسة الأرشيف الوثائقي للقيادة القطرية.
الثاني/ مسار الاستهداف البعثي المباشر لإحياء الشعائر الحسينية على وفق الوثائق المتوفرة.
الثالث/ المسار الإعلامي، الذي يتفرع إلى شكلين:
- توظيف الإعلام البعثي في إحياء الذكرى، مثل نشر بوسترات بعثية أو الترويج الإعلامي لموالين بعثيين.
- توظيف الإعلام في استهداف إحياء الذكرى، مثلما حصل في الترويج الإعلامي للزواج الجماعي، ومظاهر الاحتفال في العاشر من محرم سنة 1993م.
وهذه التقسيمات للحقب وفهم المسارات هي التي سيرتكز إليها الباحث لمناقشة الموضوع.
وعلى وفق ما تقدم، يمكن الرجوع إلى عداء البعثيين للشعائر الحسينية إلى حقبة حكمهم الأول من شباط – تشرين الأول 1963م، في البصرة على سبيل المثال، تعرض الشهيد الحاج عبد الحسين جيتا – تم إعدامه في سنة 1969م- الذي عُرف بإقامة المجالس الحسينية، وتسهيل حركة الزائرين من خارج العراق – من باكستان وغيرها- لزيارة كربلاء المقدسة، إلى مجموعة مضايقات وعمليات ابتزاز مالي، وصولاً إلى إعدامه في قضية ملفقة، ناقشها بشكل مفصل الدكتور علي القريشي، ونقلاً عن السيد عبد الوهاب الصافي ” إن أزلام النظام كانوا يضمرون له الحقد، وكانوا يتربصون به الدوائر، منذ كان يقيم مجلس العزاء الحسيني في الستينيات، وكان بعض الخطباء، ومن على منابرهم في هذه المجالس، يستنكرون ما قام به البعثيون من إساءات وجرائم ضد أبناء الوطن”.
ومع نهاية حكم البعث الأول شباط – تشرين الثاني 1963م، وبداية الحكم العارفي، الذي كانت له أساليبه في التمييز الطائفي، قد تم توثيق استهداف غير مباشر للشعائر الحسينية، إذ يذكر عبد الكريم الأزري أن مشاهدة طاهر يحيى – رئيس وزراء العراق في الحكم العارفي- أثناء زيارته إلى سوق الشورجة في محرم 1964م مجالس العزاء الحسيني- وكان حينها يقرأ مجلس العزاء خطيب المنبر الحسيني الشيخ الوائلي- قرر يحيى إقصاء التجار الشيعة من العرب والكورد الفيليين من السوق عبر تأميم مجموعة كبيرة من الشركات التي كانت تعود إليهم، وذلك على وفق ما عُرف بسياسة التأميم في سنة 1964م.
وعن حقبة السبعينيات، ذكر الباحث الفرنسي بيير جون لويزار – مؤلف كتاب دور رجال الدين الشيعة في تأسيس الدولة العراقية- “ظلت السلطة تخشى من الشيعة ومراجعهم وتحاول إخضاعهم وإرعابهم بكل وسائل التهديد والتعذيب والاعتقالات”. كذلك يصف دكتور علاء بشير – طبيب صدام- موقف نظام البعث من الشعائر الحسينية بالقول: “وقفت منذ بداياتي المبكرة على حجم القمع الذي تعرض له الشيعة في الجنوب، فقد كانت أول وظيفة لي اتولاها في العراق بعد انهائي لدراستي التخصصية في لندن في عام 1972م في مستشفى البصرة. ذات يوم أتاني ضابط برتبة نقيب يعمل في الشرطة السرية، كان مكتئباً وحزيناً، قال، وهو يحكي ” لقد تلقينا الأوامر بالنزول إلى الشارع، وبمنع الناس من إعداد الطعام للفقراء في ذكرى الحسين”.
وعن حقبة السبعينيات توجد مجموعة وثائق تشير إلى مراقبة البعثيين للشعائر الحسينية، فضلاً عن حادثة انتفاضة صفر 1977م، التي كانت ردة فعل على منع البعثيين للسير إلى كربلاء المقدسة في ذكرى أربعين الإمام الحسين (عليه السلام).
(وثيقة تتضمن مراقبة اللطميات الحسينية في سنة 1976م)