د. قيس ناصر
(جئت لذبح الشيعة حتى لو كانوا في أرحام أمهاتهم)، هذا قول لأحد القيادات الإرهابية من الذين ارتكبوا مجزرة نزلاء سجن بادوش، ويمثل السياسة التي اعتمدتها التنظيمات الإرهابية في ارتكابها للمجازر ضد الشيعة، وقد ورد ذكره في تقييم اليونيتيد لمجزرة نزلاء سجن بادوش، التي تُعبر عن ذاكرة الدم العراقي، زُهقت فيها أرواح ما يقارب ألف ضحية؛ لأنهم شيعة، وفي الوقت نفسه، يُظهر تقرير اليونيتيد أنّ بعض السجناء السنة حاولوا حماية زملائهم من الضحايا الشيعة، وهو ما يُظهر بعداً إنسانياً عميقاً في سياق الجرائم التي ارتكبت ضد النزلاء من منطلق طائفي.
وبالمقابل أيضاً أنّ بعض السجناء أنفسهم قد وشوا للإرهابيين عن الضحايا الشيعة، ولاسيما أن بعضهم ينتمون إلى الجماعات الإرهابية، مثل: تنظيم القاعدة والجيش الاسلامي الذي كان له نفوذ داخل السجن، إلى جانب العديد من الجماعات الإرهابية الأُخرى التي انضمت لاحقاً إلى تنظيم داعش الإرهابي.
وعلى الرغم من أنّ المقال لا يُحيط بتفاصيل المجزرة بشكل شامل، إلا أنّه يحاول تشكيل مدخلٍ للكتابة عنها بوصفها واحدةً من أكثر المجازر الدموية التي ارتكبت في العراق، لذلك فالكتابة عن هذا الموضوع تأتي من منطلق أنّ حق معرفة الحقيقة ينبغي أنْ لا يُقتصر على الضحية وأفراد أسرته وحسب، إنّما هو حق مجتمعي يرتبط بدوره المهم في حفظ الذاكرة، الذي يتطلب عدم النسيان، حتى لا تُزيف الوقائع ولا تتكرر الجرائم.
إنّ المعني بدراسة هذه المجزرة يُلاحظ هالة الصمت المحيطة بها، وكما قال حامد خليل -وهو أحد الناشطين من ذوي الضحايا-: منذ اليوم الأول للمجزرة، لم نسمع حينها من رئيس الوزراء أو نائب رئيس الجمهورية أو رئيس البرلمان أو وزير العدل، ولا حتى من البرلمانيين، كلمة إدانة واحدة لما حصل لسجناء بادوش. ويشير محمد الكوفي – وهو أيضاً من ذوي الضحايا- أنّ غياب الاهتمام الرسمي بضحايا المجزرة ربما يعود لاعتبارهم أقل شأناً لهذا لم يُكلف المسؤولون أنفسهم لإدانة عملية قتلهم، أو لأنهم سجناء يضعونهم في مرتبة أدنى من باقي الضحايا.
وبالعودة إلى السياق الزمني لارتكاب المجزرة، في التاسع من حزيران 2014م، وخلال اجتماع دعا تنظيم داعش الإرهابي الجماعات الإرهابية الأُخرى لدعمه في الهجوم على سجن بادوش المركزي، واستجابت لذلك جماعة أنصار السنة -التي ذكرها تقرير اليونيتاد في الصفحة الخامسة بأنها نفسها أو المعروفة بجماعة انصار الإسلام، وهذا الأمر ربما ورد سهواً في التقرير؛ لأن جماعة أنصار السنة ليست جماعة أنصار الإسلام-، واعتمد تنظيم داعش أيضاً على دعم الإرهابيين السجناء، فضلاً عن بعض حراس السجن الذين زودوا التنظيم بمخطط السجن وانتماء السجناء، وكان ذلك في الاجتماع المذكور آنفاً، ولم يقف الأمر عند التخطيط وتزويدهم بالمعلومات، بل شاركوا في الهجوم على السجن وقتلوا السجناء الشيعة.
وبهذا فإن الإرهابيين الذين ارتكبوا المجزرة، هم أفراد تنظيم داعش، وجماعة أنصار السنة، والجيش الإسلامي، وتنظيم القاعدة، وبعض السجناء من الإرهابيين، فضلاً عن بعض السجّانين.
ومن الجدير بالذكر، في أثناء الهجوم على السجن في 10 حزيران 2014م، كانت هنالك قوائم أسماء لبعض السجناء أغلبهم من الشيعة، ويبحث عنهم عناصر تنظيم داعش الإرهابي، وقد تم تصفيتهم في المحيط القريب من السجن ولعلهم من أوائل ضحايا السجن.
وقدّم العديد من الناجين روايات عن حالات متعددة منها أن بعض الضحايا الشيعة لم يعلنوا عن هويتهم إلا أنّ الإرهابيين من السجناء الآخرين وشوا بهم، وبعضهم الآخر تم التعرف عليهم من خلال دلالات انتمائهم العقائدي، مثل: وجود صورة الإمام علي عليه السلام في الموبايل، وعلى إثر ذلك تم قتلهم وسبق ذلك وابلا من الإهانات للضحايا.
إنّ توثيق هذه المجزرة ودراستها أمرٌ لا غنى عنه لمواجهة نسيانها؛ ومن أجل ذلك، هنالك حاجة إلى إجراء المقابلات مع الناجين والشهود وذوي الضحايا، والإفادة من التحقيق القضائي وتقارير الطب العدلي ومديرية شؤون المقابر الجماعية، فضلاً عن التحليل الإعلامي عبر مراجعة وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الخبرية.
ومن اللافت للانتباه، على وفق السياق الإعلامي الذي اعتمده الإرهابيون في تسويقهم لجرائمهم فإن هذه المجزرة على العكس من مجزرة سبايكر لم يُذكروها في بياناتهم أو فيديوهاتهم التي نشروها عن جرائمهم، على الرغم من تأكيد عدد من الناجين أنهم شاهدوا بعض الإرهابيين وهم يصورون الأحداث بكاميرات فيديو في مواقع مختلفة من تنفيذ المجزرة، وهذا الأمر يستحق الوقوف عنده وتحليله في سياق تحليل الخطاب الإعلامي للإرهاب.
وعن إحصائية شهداء المجزرة، فقد ورد نقلاً عن تسعة من الناجين أجرت معهم هيومن رايتس ووتش مقابلات في سنة 2014م أنهم سمعوا زملاءهم النزلاء في نهاية الطابور ينادون بالأرقام من ٥٠١- ٧٥٠ على وفق الأعداد التي اعتمدها الإرهابيون في تصنيف النزلاء الشيعة، بينما قال ناجون آخرون إن الإحصاء وصل إلى (المئات). ومن خلال توثيق شهادات بعض الناجين، وحراس سجون وشهود عيان وذوي ضحايا سجناء ومصادر حكومية ومدنية، يتبين كيف أنّ مئات الضحايا من نزلاء سجن بادوش من أصل 2700 قد قتلتهم الجماعات الإرهابية، ودفنت جثثهم في مقابر جماعية أو تعرضت للتفسخ في مواقع مختلفة. وهنالك إحصائية أخرى تشير إلى أن مجموع الضحايا (943) ضحية موزعة على المقابر الجماعية كالآتي : (519) أعدموا في وادي بادوش، و(306) عند بوابة الشام، و(82) في عين الجحش، و(36) على مشارف تلعفر. وقد ذكر الشهود أنّ بعض السجناء الضحايا نجوا بعد إطلاق النار عليهم عن طريق التدحرج إلى الوادي والتظاهر بالموت، أو لأنهم احتموا بجثث سجناء آخرين سقطت فوقهم.
وذكر تقرير مفوضية حقوق الإنسان في العراق أنّ القتل تم على أساس مذهبي، وبلغ عدد الضحايا 623 ضحية، والرقم المذكور في هذا التقرير لا يمكن اعتماده اليوم، لوجود دلائل تشير إلى ارتفاع عدد الضحايا، فقد وصل ما يقارب 1000 على وفق تقييم اليونيتيد، كذلك ذكر تقرير المفوضية أن الإرهابيين طلبوا من بعض ذوي الضحايا فدية إيهاما لهم بأن الضحايا أحياء، وبالرجوع إلى تقرير اليونيتيد، فإن عمليات القتل تمت في ستة مواقع، وفي أوقات مختلفة من اليوم نفسه، منها:
- وادي بادوش على الجانب الآخر من الطريق السريع بين تلعفر والموصل.
- مصنع بادوش للإسمنت في شمال غرب بادوش.
- الضحايا الذين غادروا السجن بمفردهم تم قتلهم إما عند نقطة تفتيش بوابة الشام أو في وادي بادوش.
- موقع عين الجحش في موقع عسكري قديم، إذ تم نقل بعض الضحايا من مصنع إسمنت بادوش أو بوابة الشام وقتلوا هناك.
- مواقع أخرى.
وقبل ارتكاب هذه المجزرة، كان حراس سجن بادوش، وغالبيتهم من مدينة الموصل التي نشط فيها تنظيم داعش، قد تعرضوا إلى تهديدات باستهدافهم وعوائلهم، على وفق تصريح وزارة العدل التي أكدت أن 200 حارس قدّموا استقالات جماعية نهاية عام 2013م.
وفي سياق آخر، أشارت تقارير سابقة أن سجن بادوش لم يكن محصناً ضد الاختراقات وعمليات الاقتحام، ففي كانون الأول عام 2006م هرب أيمن سبعاوي بتواطؤ مع أحد مسؤولي السجن. ثم جرت عملية الاقتحام التي نفذها تنظيم القاعدة الإرهابي بمساعدة تنظيمات من حزب البعث في ربيع عام 2007م وأسفرت عن هروب 186 سجيناً خطيراً، بينهم اثنان من أبناء برزان ووطبان وهما أخوي صدام غير الشقيقين، فضلاً عن الناطق باسم القاعدة (أبو ميسرة العراقي)، و36 عنصراً عربياً في تنظيم القاعدة.
ولم يكن ذلك فحسب، بل كانت هنالك هجمات أُخرى على سجن بادوش بين عامي 2012-2014م، حتى أنه في 5 شباط 2014م أي قبل ارتكاب المجزرة بأربعة أشهر، تعرض إلى هجوم واسع من أجل تهريب الإرهابيين من جماعة الجيش الإسلامي المسجونين فيه، إلا أنهم لم يستطيعوا الهروب، وهنالك رأي يقول إنّ نقل السجناء الشيعة من السجون الأخرى إلى هذا السجن جاء بعد هذا الحادث. وفي تصريح للناطق عن وزارة العدل ذكر فيه أن الاعتداءات الإرهابية طالت عدداً كبيراً من العاملين في السجن وفي مقدمتهم مدير السجن الذي تعرض لاعتداء بتاريخ 2/4/2014م، وفي تاريخ 5/5/2014م، تعرض السجن لهجوم بقذائف الهاون بلغت (25) قذيفة سقطت في داخله ومحيطه.
وفي تقييم اليونيتيد لمجزرة سجن بادوش الصادر في أيلول 2024م، ذكر أنّ الأعمال التي ارتكبها تنظيم داعش كجزء من الهجوم على سجن بادوش المركزي قد ترقى إلى جرائم دولية عدة، وهي (الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب)، فالإبادة الجماعية هي السياسة التي اعتمدها التنظيم ضد الشيعة في العراق، وكانت لدى عناصر التنظيم المشاركين في القتل نية الإبادة الجماعية فيما يتعلق بنحو 1000 سجين بالغ أعدموا في الأيام التي تلت تاريخ 10 حزيران 2014م من نزلاء سجن بادوش فقط. وارتكبت جرائم ضد الإنسانية، من خلال القتل والإبادة والتعذيب، والمعاملة القاسية، واللاإنسانية، والاضطهاد.
وارتكبت جرائم حرب من خلال أعمال القتل والتعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية والاعتداء على الكرامة الشخصية. ولم يتم دفن جثث الضحايا، بل تركوها في العراء لأيام عدة، وسلب تنظيم داعش الإرهابي ممتلكات السجناء، فكما ذكر أحد الناجين (أ. ج.): أخذوا منا كل شيء النقود والساعات والخواتم والمستمسكات الثبوتية، بناء على أمر قائد المجموعة الإرهابية لعناصره بتجريد السجناء الشيعة من مقتنياتهم، والتوجه بهم إلى حافة الوادي.
وأشارت ليتا تايلر -وهي باحثة في قسم الإرهاب ومكافحة الإرهاب في هيومن رايتس ووتش- في تقرير صدر سنة 2014م أن أي قدر من الإهمال الحكومي لن يمثل عذراً لجرائم تنظيم داعش، وعلى السلطات بذل كل ما بوسعها لحماية الشيعة وغيرهم من الذبح. وذكر أحد الناجين من المجزرة (س. س.) أنه سمع المسلحين يتناقشون فيما إذا كان يجب قطع رؤوس السجناء، وقد وضع أحدهم سكينه على رقبة أحد الضحايا، بنية ذبحه، لكن الإرهابي الآخر قال: عددهم كبير وأعدادنا لا تكفي، فدعنا نقتلهم بالرصاص، وهكذا ذهب إلى الضحية الأولى وأطلق طلقات عدة على ظهره، ثم فتحوا النار علينا جميعاً.
وفي سياق تدوين إفادات الناجين عن المجزرة، ينبغي الإشارة إلى أن وزارة العدل العراقية شكلت في أيلول 2014م لجنة لتدوين إفادات الناجين من أجل إعداد تقارير خاصة عن الجريمة لإقامة دعوى جزائية بحق مرتكبيها أمام المحاكم الوطنية، فضلاً عن تعريف الرأي العام المحلي والدولي ببشاعتها؛ لكونها جريمة من (جرائم الإبادة الجماعية)، على وفق ما ذكر في أحد التصريحات الرسمية للوزارة إلا أن ذلك لم يتحقق حتى كتابة المقال. وفي شهر كانون الثاني 2015م صدر قراراً من مجلس النواب بإحالة الملف إلى التحقيق، فضلاً عن توثيق المجزرة بتفاصيلها، إلا أن نتائج هذا القرار لم يُعلن عنها أو لم تستكمل.
وعلى وفق ما ذُكر أعلاه، ينبغي أن تُعلن نتائج التحقيقات التي وعدت بها الوزارة ومجلس النواب من أجل إنصاف الضحايا وذويهم، فضلاً عن تحقق الحق في المعرفة، فالمجزرة التي راح ضحيتها ما يقارب 1000 ضحية ليست منفصلة عن جرائم إرهابية أخرى ومن منطلق عقائدي لأنهم شيعة.
ختاماً، ينبغي الإشارة إلى الدور الإنساني للعتبة العباسية المقدسة في تضامنها مع الضحايا وذويهم من خلال إكرام شهداء مجزرة بادوش بتخصيص مقبرة خاصة بهم، والمساهمة بالدفن والتشييع، وقد مثل المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف العتبة المقدسة في عملها هذا، الذي يحرص أيضاً على متابعة إنجاز معاملات الضحايا.
المصادر:
- الموقع الالكتروني لمجلس النواب العراقي، قرار التصويت بتاريخ 22 كانون الاول 2015م بشأن احداث مجزرة سجن بادوش.
- الموقع الالكتروني لوزارة العدل العراقية، التصريحات الخاصة بمجزرة بادوش
- مجلس مفوضية حقوق الانسان، التقرير السنوي الشامل الثاني حول حقوق الانسان في العراق 2014م، 2015م.
- تقرير هيومن رايتس ووتش، تنظيم الدولة الإسلامية أعدم المئات من نزلاء أحد السجون، 30 تشرين الأول 2014.
- اليونيتيد، تقييم وقائعي وقانوني للأعمال التي ارتكبها تنظيم داعش في العراق خلال الهجوم على سجن بادوش المركزي بتاريخ 10 حزيران 2014م، ايلول 2024م.
- الموقع الالكتروني للمركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف، الأخبار الخاصة بمجزرة نزلاء سجن بادوش.
- تحقيقات صحفية، صدرت عن: (اعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية)، و(شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية)، فضلا عن تحقيق صحفي بعنوان (القصة الكاملة لمجزرة سجن بادوش).