banarlogo

الذاكرة الجماعية لسبايكر: كيف تصوغ الشعوب سردياتها عن الألم؟

د. عباس القريشي

 

 

 

 

    في صيف موجع من حزيران/ 2014، سُفكت الدماء على تراب العراق في واحدة من أبشع الجرائم الدولية التي سجلها تاريخه المعاصر، بالقرب من القاعدة العسكرية “سبايكر” بتكريت، امتدت يد الإرهاب والتطرف لتخطف أرواح أكثر من (2157 شابا) من طلبة القوة الجوية والعسكريين وآخرين، لا ذنب لهم سوى انتمائهم لطائفة في وطن انهكته الدكتاتورية والعصابات المتطرفة والجماعات الإرهابية.

لم تكن المجزرة مجرد جريمة قتل جماعي، بل زلزال أصاب ضمير الوطن، وجرح نازف في الوجدان الجمعي، واختبار مرير لقدرة العراقيين على التماسك وسط الخراب، وعلى تحويل الفقد إلى وعي، والدم إلى ذاكرة.

لكن، كيف تنقلب الأحداث الدامية إلى ذاكرة حية؟ وكيف تصوغ الشعوب جراحها في سرديات تحفظ الكرامة وتقاوم النسيان؟ هنا تبدأ مقاربة هذا المقال، من نافذة الذاكرة الجماعية، بوصفها الآلية التي تصوغ بها المجتمعات معانيها بإزاء الكوارث، وتعيد بها رسم هوية الألم والكرامة.

 

أولاً: الذاكرة الجماعية.. حين يكون الوجع إطارا للمعنى

    الذاكرة الجماعية، كما يوضح عالم الاجتماع “موريس هالبواكس (Maurice Halbwachs)”، ليست فعلا فرديا معزولا، بل ممارسة اجتماعية تتشكل عبر أطر جماعية تُملي علينا ما يُذكر وما يُنسى. وفي فاجعة سبايكر، تشكّلت هذه الذاكرة من التقاء إرادات عديدة: عائلات الشهداء، المؤسسات التعليمية، العتبات المقدسة، الهيئات القضائية، الأجهزة الأمنية، مؤسسة الشهداء، والإعلام. كلها تضافرت لتشكيل سردية وطنية لا تقف عند حدود الطائفة أو الجغرافيا، بل تتجاوزها لتُعيد تعريف المأساة بوصفها علامة فاصلة في تاريخ الانهيار الأمني والسياسي، وعلامة أمل في الوقت نفسه لبعث الروح الوطنية من رماد الفقد.

 

ثانياً: الألم حين يتحول إلى مقاومة

    لم يكن التذكّر لمجزرة سبايكر رفاهية وجدانية، بل فعلا مقاوما في وجه الصمت والنسيان، كانت المطالبة بكشف مصير المفقودين صوتا يحرج النظام السياسي آنذاك، وإقامة النصب التذكارية أفعالا ترسم حدود الذاكرة في الفضاء العام، وتحويل صور الضحايا إلى رموز بصرية في الميادين فعل تحدٍّ ضد محاولات محو الجريمة.

وقد تحوّلت ذكرى المجزرة إلى موعد سنوي للحياة في وجه الموت، حيث يشارك الآلاف — من ذوي الضحايا وسواهم — في إحيائها داخل مجمع القصور الرئاسية بتكريت، في استعادة رمزية لمكان الجريمة، وتحويله إلى ساحة للذاكرة والمطالبة بالعدالة.

ولم يقتصر الأمر على ذوي الشهداء، بل انضمت إليهم منظمات أممية ودولية، ومؤسسات مجتمع مدني، ومؤسسات دينية وثقافية، وشخصيات حقوقية وسياسية، حتى أن الحكومة المحلية في محافظة صلاح الدين أعلنت يوم الذكرى عطلة رسمية، في اعتراف رمزي بالجريمة، ورفض للظلم الذي مورس على يد المتطرفين.

وفي إطار هذا الجهد، تبنّى المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف التابع للعتبة العباسية المقدسة مسؤولية الإسهام في إحياء الذكرى ضمن فعاليات مهرجان فتوى الدفاع، مُضفيا على الحدث بعدا مؤسساتيا ووطنياً، وجاعلا من الذاكرة الشعبية ممارسة ثقافية رسمية ترسّخ قيم العدالة، وتصون وحدة المجتمع من التشظي والنسيان.

 

ثالثاً: الدولة.. بين الذاكرة الرسمية والذاكرة الحيّة

    جاءت استجابة مؤسسات الدولة بإزاء سبايكر متأرجحة بين الاعتراف والتقصير.

فعلى الرغم من إقرار مجلس النواب بجسامة الجريمة واعتبارها جريمة دولية تستوجب التخليد، ورغم إجراء محاكمات لعدد من الجناة، إلا أن العدالة ظلّت ناقصة، متأخرة، محدودة الأثر. وهذا ما فتح الباب أمام الذاكرة المجتمعية — الشعبية منها والمدنية — لتؤدي أثراً أوسع وأعمق، مؤكدة أن الذاكرة لا تُصنع من البيانات الرسمية فحسب، بل من صرخات الأمهات، وآهات الآباء، وعويل الأرامل، وبكاء الأيتام، وصور الشهداء، وزخم الجماهير، حين ترفض طمس الحقيقة أو التصالح مع القتلة دون مساءلة حقيقية.

 

رابعاً: التعليم.. ذاكرة الأجيال القادمة

    من أبرز التحديات التي تواجه ترسيخ ذاكرة سبايكر، هو غيابها عن المناهج الدراسية والحوارات الثقافية العامة. فالجريمة — التي تُعد نموذجا مركبا من ثلاث جرائم دولية: الإبادة الجماعية، وجريمة ضد الإنسانية، وجريمة حرب، بالإضافة إلى القتل خارج القانون، والاختطاف — لا يمكن أن تُختزل في الخبر العابر أو البيان الموسمي، بل يجب أن تغدو محطة تعليمية مركزية تُحَصِّن الأجيال ضد الطائفية، وتكشف عن هشاشة الدولة أمام العنف المنظم، وتمنح الناشئة أدوات فهم تاريخ بلادهم من داخل الألم، لا من خارجه.

 

أخيراً: من الحداد إلى اليقظة

    إن مجزرة سبايكر لم تكن نهاية، بل بداية لوعي جديد، وقد تحولت من مأساة إنسانية إلى منعطف في الضمير العراقي، علّمتنا أن الدم لا يتبخر، وأن الكرامة لا تُدفن، وأن الحداد إذا ما قوبل بالوعي يمكن أن يتحول إلى يقظة.

فمن خلال استحضار مجزرة سبايكر، لا يكرّم العراقيون شهداءهم فحسب، بل يؤسسون لثقافة مقاومة ضد التكرار، وضد الصمت، وضد النسيان، فالذاكرة ليست مجرد خزانة للماضي، بل بوابة المستقبل.