د. رائد عبيس
عندما نسأل عن موضوع أنثروبولوجيا المقابر الجماعية ونقول: لماذا العراق بحاجة إلى دراسات أنثروبولوجية لمقابره الجماعية؟ تتعمق الحاجة إلى الإلحاح بهذا السؤال وتكراره، بقدر تعمق الحاجة إلى البحث عن إجابات كافية لما يتعلق بالموضوع ومدياته.
ماذا يظن المجرمون الذين يرتكبون جرائم قتل وإبادة بحق الأبرياء؟، من نتائج لهذه الأفعال؟ وماذا يدركون من تبعات ومخلفات لما اقترفوه من جرائم من هذا النوع؟ والمعروف أن جرائم الإبادة الجماعية، هي جرائم حدثت ضد مجتمع ( قومية، ديانة، طائفة، أقلية، مجموعة ) بمعنى أن الصفة الغالبة على هذه الجريمة هي جريمة جماعية، تشترك بها كل عناصر الجريمة العمدية. المستهدفة لهذه الجماعة. وهذا الأمر يقدم افتراضات عن كيفية تصور حجم الكارثة التي تتوسع كالحجارة في بركة ماء. وما يتبعها من نتائج طويلة الأمد.
واليوم نحن نتساءل عن جرائم حدثت في العراق قبل 40 سنة أو 45 سنة أو 14 سنة أو أكثر أو أقل، بحسب فرضية أعداد الضحايا الذين قضوا في مقابر جماعية وإبادة جماعية لأي جهة مستهدفة كانت، وتاريخ حدوث الجريمة، والقرائن الدالة على مواقع هذه المقابر، وفرضية الحصول على الحامض النووي الذي يعد العامل الأساس في تفسير علاقة الضحية بقاتلها، وتفسير علاقة الضحية بالبيئة التي قتل فيها، وتفسير علاقة الضحية بأهله وذويه، وتفسر علاقة الضحية بدولته، وعلاقة الضحية بإقليمه، ومناطقه، وبحيه السكني، وبقريته.
فالحامض النووي له أهمية في تقديم نتائج قانونية وعدلية عملية وناجحة، يظهر كثيراً من الحقائق التي تحتاج إلى تساؤل اجتماعي وأنثروبولوجي عن مصير الضحية، وعمن له اهتمام بها من الدولة أو ذويهم أو أقاربهم.
وبالفعل حدثت كثير من القصص الاجتماعية التي أظهرت طبيعة التعامل الأخلاقي مع الضحايا وحامضهم النووي، من حيث التطابق وعدم التطابق، أو التطابق الحقيقي وغير الحقيقي، من حيث مستوى نتائج الفحوصات وخبرة العاملين ومهنيتهم في مجال الطب العدلي والفحص الكيميائي والأنثروبولوجي في دائرة الطب العدلي قسم المقابر الجماعية. أما على مستوى الأهالي فكثير منهم يمتنعون عن إعطاء عينات من الدم لتحقيق المطابقة المرجعية أو عينات عظمية، ويرفضون التعاون مع دائرة الطب العدلي، تحت ذرائع كثيرة، منها: عدم اكتراثهم للضحية سواء عثر عليه أم لا، بكونهم – وبكل الأحوال – قد ماتوا وانتهى أمرهم. أو بسبب سفر الأهالي خارج العراق؛ مما يصعب التواصل معهم، فضلاً عن عدم رغبت بعضهم في كشف مصير ضحاياهم، أو ليس لديهم اندفاع عاطفي تجاه فقيدهم اصلا، وهنا تبرز المشاكل الأخلاقية فيها، وعن قيمة الضحية، ومدى الاعتزاز بها أو العناية بأمرها، وتبرز مشاكل اجتماعية كثيرة منها ما يتعلق بالمواريث، والتركة، وزواج الزوجة، وغيرها من الأمور، فيما لو لم يُحسم مصير الضحية، وعده بالدليل القاطع عبر فحص الحامض النووي للتأكد من نسبه.
فيما نجد العكس من هذه الحالات، فنجد أمهات، وآباء، وأبناء، وأخوة يتابعون على الدوام مع دوائر الطب العدلي، وبمراجعات مستمرة لتفقد آخر النتائج التي من الممكن أن تساعدهم على التعرف على ضحيتهم من ابن أم زوج أو جد، مما يظهر مدى الاعتزاز الاجتماعي بالضحية وتضحيته، وبطولته، وشهادته، والتفاخر بذلك، وعمل كل ما يتطلب إحياء ذكراه، وتمجيد بطولاته، ورفع قيمة شهادته، ولا سيما ممن قضوا وهم في حالات الدفاع عن الوطن، أو في حالات الغدر بهم، أو في عميات الإبادة الجماعية، أو حالات الدفن الجماعي لعمليات أمنية إجرامية قاتلة سواء كانت من قبل حزب البعث، أو من الجماعات التكفيرية التي سارت على نهجه.
فالتساؤل الاجتماعي والأنثروبولوجي، يأتي للتساؤل عن: ما قيمة هذه المادة، وهي (الحمض النووي) في تفسير كثير من الظواهر الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، وما تظهره من حقائق وحقوق، وما قيمة هذا الفحص وما يُقدمه من افتراضات؟ ولاسيما عندما يكون للحمض النووي اعتبارات سياسية، وعرقية، وطائفية، واقتصادية، وأخلاقية، ودينية – شرعية، ومهنية، وتربوية، وتعليمية. وبالتأكيد نحتاج كل ما تقدم للحديث بشكل أعمق عن أهمية أنثروبولوجيا المقابر الجماعية، من حيث الموقع، والعينة، وطبيعة العينة، وبالنتيجة تتوسع الإجابات عن حجم ذلك الأثر السيء الذي تتركه جريمة القتل الجماعي والإبادات.
وفي العراق هناك توقعات بأن أعداد الضحايا في المقابر الجماعية يفوق المليون ضحية، وهذا العدد يوسع من توقعات المزيد من المواقع القبرية التي كانت مواطن الدفن الجماعي للأحياء، أو مواطن الدفن الجماعي للأموات. وكلما مر الزمن تتعقد الأسئلة، وتضعف جدوى العثور على أي رفات منها ؛ لأنها في النهاية سوف تكون مجرد عملية إعادة دفن للرفات فقط، حيث لا يجدون من ينتظر تطابق حامضهم النووي مع حامضه، أو قد يَضيع أمل العثور مع ضياع أمل العودة. وعندها سوف تتولد مشاعر مختلفة، وأحاسيس مختلفة، ومتغيرة مع طول مدة الفقد، والأهمية تضعف، والجدوى تتلاشى، والحقوق تبدد.
فعلاقة العراقيين مع الرفات، هي علاقة تأثرت بفعل عوامل سياسية، واجتماعية، وأخلاقية، ومهنية، وعلاقة اعتياد، وألفة مع الموت، والجثث، فعندما نجد فلاح وهو يحفر في الحقل ويصادف جمجمة أو عظام، فما عليه فعله إلا بإعادة دفنها في الأرض، وكذلك راعي الغنم عندما يجد عظام بشر متناثرة على سطح الأرض، أو أي شخص آخر يقوم بعملية حفر سواء عشوائية، أو لعمل ما سوف لا يحسن التعامل مع هذه الجثث في الغالب، إلا بما يتمكن من فعله، وهو إعادة دفنها إن اهتم بذلك، وقليل منهم من يخبر عن تلك المواقع وهذه الرفات، وأيضا بسبب تخوف من يعثر على الرفات من المسائلة القانونية تأتي ضمن تساؤلات أنثروبولوجية في تداعيات هذه الجرائم.
على الرغم من أن العراق هو أرض خصبة لمثل هذه الدراسات الأنثروبولوجية، إلا إنه متأخر عنها كثيراً، بفعل عوامل سياسية كان النظام الصدامي الدكتاتوري واحد منها. قياساً مع دول متقدمة في هذا المجال؛ نتيجة مرروها بتجارب مشابهة، مثل: راوندا، البوسنة والهرسك، المجازر الشركسية، والمجازر الأرمينية، وغيرها من أماكن مختلفة في العالم، ودخول الفرق الدولية والأممية المتخصصة في علم الأنثروبولوجيا، ومجال أنثروبولوجيا المقابر الجماعية، وإتباع منهجيات، وخبرات دولية تكاملية متقدمة في هذا المجال، ساعدت على تطور البحث فيه والوصول به إلى نتائج غيرت من الاهتمام البشري نوعا ما في التعامل مع بقايا الموتى، والإبادات الجماعية، والحمض النووي، كأقوى رابطة جينية بين الموتى والأحياء، ولهذا أصبحت جزء من الاهتمامات الفلسفية، ومباحث البيو تيقا، والبحوث الإيكولوجية، والاجتماعية.