د. رائد عبيس
رعت العتبة العباسية المقدسة مؤتمر ذاكرة الألم المقام على أروقتها في 16/17/ نيسان 2025 واحتضنت تراكمات قرن من الزمن المؤلم الذي مر على العراقيين، والمختزن لكل جراحات الماضي، والحاضر، والراهن، المكلوم بأقسى ضربات الوجع، وآهات الحرمان، والحسرة، والفقد، والتبدد، والهدم، والخراب. وهي نتاجات سياسات بيئية مشوهة من الأيديولوجيات الدخيلة المختلفة والمتنوعة، وقرارات خارجية من دول طامعة، ومحتلة، ومتكالبة على العراق وأهله.
تركت آثارها المدمرة على المجتمع العراقي، إذ بطش القوي على الضعيف، والجاهل على العالم، والغني على الفقير وتصارعت الإيديولوجيات، وتعارضت القيم، وتفشت الفوضى الفكرية، وتزاحمت المصالح والولاءات الداخلية والخارجية على حساب سلامة الوطن.
وبالفعل فقد العراقيون سلامتهم منذ قيام دولتنا الحديثة في عام 1921 ولغاية يومنا هذا؛ حيث لا مجال للتفكير مع الألم، ولم يسعفنا التاريخ ولم يمهلنا الزمن استراحة لكتابة يومياتنا المجروحة، ولا ذكرياتنا المبعثرة عن تجاربنا الوطنية مع الوطن. فسرعان ما تداخلت المتغيرات وتسارعت الأحداث، وانقلبت أنظمة وتبدلت حكومات، وكتبت دساتير، وعلقت أخرى. حتى حكم العراق في نصف تاريخه الحديث بدستور مؤقت كان لعبة سياسية بيد حزب البعث الذي حمل تاريخه ما يقارب 80% من الذاكرة المشوهة والمؤلمة والقاسية والجارحة لوجدان العراقيين جميعاً، بل وتعداه إلى جيرانه.
أنه تاريخ مثقل ومعبَّأ ومبعثر وظلامي لا يسمح لنفسه أن يكشف نفسه لغاية يومنا هذا. حيث بعثرة أرشيف ذاكرته، وتعدد مصادر تملكه وعائديته، وضياع النصف الآخر بسبب الخوف من محتواه الذي يبحث عنها التاريخ ويحاول أن يستنطقه ويفسره ويحلله، عسى ألا يتكرر ما جاء فيه.
تلك هي وثائق الألم المكتوب، ونحن نملك جزءاً كبيراً من وثائق غير منطوقة لتكتب، موجودة في صدور المعذبين وفي خزين عقول من فقد القدرة على الكلام، ومن فقد القدرة على نقل ذاكرته لغيره جراء التعذيب الإجرامي الذي طالهم.
جزء كبير من هذا التاريخ الذي نبحث عنه راح مع أوجاع الموتى قبل موتهم، ومع المهاجرين عن بلد العذاب البليغ، ومع الصامتين من هول المصاب ووجع الذاكرة، ومع الناطقين بحذر الخوف إذ لا ينطقون كل ما يعرفون لعلهم يخافون من ظلال الجلاد التي ما زالت ترافقهم كقرائن خوف وقلق، وتوتر، كلما دقَّ جرس بيت أو رنَّ هاتف.
هكذا قرائن الألم ما زالت تتفاعل معنا ونحن نعيش ظل الدكتاتورية التي لم يُجبر ضررها بعد؛ لأنها خلفت ندوباً روحية ونفسية لا يمكن الشفاء منها بسهولة ولعله جرح خالد وألم أبدي. هذا الاستعصاء على الشفاء قد منعنا بالفعل من قدرة التفكير مع الألم، ومنعنا من رغبة حفظ تاريخنا الموجع، وقسوة التجربة دفعتنا لعدم رغبة التفكير في تجربة الأرشفة. دفعنا حتى إلى نسيان أنفسنا أحيانا،_ وهذا ما يعاني منه كثير من الضحايا وقد يلازمنا حتى موتنا_ من معاودة التفكير فيما يؤلمنا؛ لأننا لا نملك قدرة على جبر ضرره، ولا يملك أحد إمكانية جبره، ولا نملك القدرة على تفسيره.
فمبادرة مثل مبادرة المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف، في تجربته المؤتمرية الأولى بإعلان الرغبة (بالتفكير مع الألم) وإلى حفظ ذاكرة الجريمة سواء كانت المادية منها أو المعنوية، أمر لا يتم بسهولة ولا يتمكن القانون من تنفيذه؛ لأنه يرتبط بالوجدان، والأحاسيس، والذاكرة، والمشاعر.
والسؤال الذي يمكن أن نجده كامنا في هذه المبادرة: هو، هل لدينا القدرة على التفكير مع الألم؟ أم أن الألم يشغلنا عن التفكير فيما آلمنا؟
وهل نسمح لغيرنا أن يُفكر فيما آلمنا؟
نعتقد أن جواب عما تقدم من أسئلة، سمحت به هذه المبادرة المؤتمرية، وهو أن نبدأ بالتفكير مع الألم إذ إن ذا النوع من التفكير ليس بالضرورة أن يكون كله معلناً، فما زال كثير من أفكار الألم حبيسة صدور من تجرع غصصها. يكون لهذه المبادرة نصيب مما يمكن أن يعلن أو يكشف عنه. مع مقارنة ألم الذاكرة النسوية وألم الذاكرة الذكورية واختلاف الشهادات بالحقيقة. وهنا تكمن محنة الحقيقة وتتعثر معها صورتها الكاملة فتحجب حيناً وتكشف حيناً آخر.
فعندما أعلن عن مؤتمر ذاكرة الألم كانت مناسبة للانفراج عن المحبوس من ذكريات لعقود من الآلام والأوجاع والجريمة المكتشفة منها الوقتية أو المستمرة. وكان مناسبة لتحريك عقول الآخرين للتفكير في آلامنا، ومناسبة للتفكير مع الألم لا التفكير بالألم. لكل من هذين المناسبتين منهجيتهما، وسبيلهما في التفكير بما يعالج منهما، فمؤتمر ذاكرة الألم مناسبة لإعادة كتابة التاريخ بأقلام الضحايا لا بقلم الجلاد، لإعادة التفكير في الــــ(لماذا).
لماذا حدث كل هذا، ويحدث، ويتكرر؟
لماذا بقي ضحايا الذاكرة الموجعة ينأون عن المساهمة في كشف حقيقة الحقب المستبدة، والموجعة، والقاسية عليهم.
حان وقت الضحايا، وحان وقت التفكير، وحان وقت المبادرات والأقلام لتكتب، وحان حينهم عندما سنحت لهم فرصة البحث، والدراسة، والتحليل، وكشف الوثائق في مناسبة مثل مناسبة مؤتمر (ذاكرة الألم) التي ضمنت محاوره حقبا زمنية استدعت الشهود، وإثارت لعقول، وطرحت الأسئلة، للبحث عن حلول وآليات لإبقاء الذاكرة الوطنية نشطة واعية متيقظة حتى لا يسمح بتكرار الألم.
أن يكتب تاريخنا من جديد، فحين تتاح المناسبة لكتابة تاريخ الألم العراقي معناه ما زلنا نملك جزءاً من عافية الأمل والوعي بخطورة أن يكون الجرح مفتوحاً من خلال تأريخه.
فما ينبغي علينا فعله هو أن نكشف بآليات فاعلة عن رغبتنا في مصارحة الأجيال بما مر على العراق الحديث والمعاصر من جراحات وآلام قاسية. وأن نبدأ بتوثيق ذاكرتنا الشفاهية؛ “لأننا خسرنا عقوداً من الزمن لم نقرأ ما نسمع من ذكريات وأوجاع العراقيين التي نالتهم بسبب حكوماتهم المتعاقبة وقسوة تجاربهم الاجتماعية الناتجة من ذلك”.
وأن نبدأ بتحليل ما مكتوب من ذاكرتنا المكتوبة، أن ندرس
وثائقنا المؤلمة لتدارك تنامي سلطة الألم مرة أخرى، وتكتب في وثائقها آلام عراقية جديدة.
فأهم ما جاء من وجهة نظرنا في مؤتمر ذاكرة الألم هو تنشيط جديد لسياقات ثقافية وعلمية ووطنية:
فعلى مستوى السياق الثقافي يعد المؤتمر يعد سابقة تأريخية على مستوى المحافل الثقافية العراقية، ولعله نافذة جديدة اتيحت للمعنيين بالشأن الثقافي الوطني أن يُكتب في هذا الشأن نتاج أدبي مختلف عن الكتابات التقليدية سواء رواية جديدة معنية بحكايات الألم والتجارب القاسية التي مرت على الشعب العراقي أو قصة أو فعالية ثقافية، وإعادة المنتج منها شفاهياً وكتابياً وتسجيلاً وتصويراً، من أجل إعادة تشكيل الثقافة العراقية على أسس وحقائق جديدة.
أما على السياق العلمي والمعرفي فالمؤتمر حرك كثيراً من الأقلام العلمية والبحثية، وظهرت كثير من المناهج لإعادة كتابة تاريخ جريمة الألم في العراق بمنهجيات معرفية وبأسس علمية بعيدا عن الدراسات العشوائية أو أحادية المعالجة. واتضح اهتمام كبير من الباحثين الأجانب المعنيين بالشأن العراقي والمختصين بالأرشيف وبالذاكرة العراقية المؤلمة، فانبرت كثير من الدراسات الأجنبية إلى تحليل مظاهر الاستبداد في العراق والجرائم التي طالت أبناءه مثل المقابر الجماعية وغيرها. فضلاً عن ظهور عدد غير قليل من الباحثين العراقيين من أبناء الخارج والداخل في الجامعات العراقية والمراكز البحثية إلى الاهتمام بهذا النوع من الدراسات والمجالات البحثية.
وهذا ما اتضح من نوعية البحوث العلمية التي استقبلها المؤتمر التي أبرزت حقائق جديدة من جغرافية الألم والجريمة في مناطق كثيرة من العراق.
أما على المستوى الوطني، فالمؤتمر شكل فرصة وطنية كبيرة للتباحث بما تعرضت له كل المكونات العراقية من دون استثناء من أخطار، وآلام، ومصائب، انعكست سلبا على المزاج الوطني حينها، مما جعل الجميع يبحث بشكل جاد عن فرصة لتوثيق هذه الجرائم وآلامها وتجاوز محنتها.