الخبير الدولي
سعد سلطان حسين
يُعدّ التعصب والتطرف من أخطر الظواهر التي تهدد استقرار الدول وسيادة القانون، وعلى الرغم من أن الفرق بينهما واضح؛ فالتعصب موقف فكري جامد، في حين التطرف هو انتقال الفكر إلى السلوك العدائي، إلا أن التعامل غير الحكيم معهما قد يؤدي إلى انهيار المجتمعات، فالدول المتحضرة وإن كانت تنتشر فيها التيارات المتعصبة! إلا أنها تعتمد سياسات متوازنة بين فرض القانون وتعزيز حقوق الإنسان، بينما الدول التي تعتمد على القمع والاستعباد تجد نفسها تنزلق نحو التطرف في مجتمعها؛ ليتحول تطرف المجتمع إلى تطرف الدولة، الأمر الذي ينتهي إلى الانفجار الداخلي.
تجربة العراق في عهد صدام حسين تُعد مثالًا واضحًا على الكيفية التي تنتهي فيها المعالجات الخاطئة إلى تطرف منهجي للدولة ومؤسساتها، وبالتالي زعزعة استقرار الدولة، وانهيارها في النهاية.
فالتعصب هو تبني رأي، أو معتقد معين من دون تقبل أي وجهات نظر أخرى، لكنه لا يعني بالضرورة استخدام العنف، أو محاولة فرض الأفكار بالقوة، في المقابل التطرف هو تحول التعصب إلى سلوك عنيف، يهدف إلى فرض المعتقدات بالقوة، وغالباً ما يؤدي إلى أعمال إرهابية، أو اضطرابات داخل المجتمع، والدول التي تفشل في احتواء التعصب عبر سياسات تعليمية وحوارية قد تجد نفسها أمام مشكلة أكبر، إذ يتحول التعصب إلى تطرف عنيف، قد ينهج العنف المسلح؛ ليهدد أمنها.
وبناءً على الاختلاف المتقدم فإن المعالجات والتعامل بالنسبة للدولة ومؤسساتها مع التعصب يختلف عن المعالجات والتعامل الذي تقره للتطرف، فالنظم الديمقراطية في العالم المتحضر تتعامل بشكل مختلف مع التعصب عنه مع التطرف؛ وذلك من خلال نهج متوازن بين تطبيق القوانين واحترام الالتزامات الدولية، تعزيز التعليم، والتعامل الأمني العادل، على وفق طرائق عدة، وبأساليب ذكية تعتمد على الوعي، والتعليم، والقانون، وليس بالقمع وحده؛ لأن التعصب غالباً ما يكون ناتجاً عن جهل، أو خوف، أو بيئة اجتماعية مغلقة؛ لذا تعتمد النهج:
- التعليم والتوعية
- تعزيز مناهج دراسية تحفّز على التفكير النقدي، وتقبل الآخر.
- نشر ثقافة الحوار، والانفتاح من خلال الأنشطة المدرسية، والإعلامية.
- تصحيح المفاهيم المغلوطة التي تغذي التعصب، خاصة فيما يتعلق بالدين، العرق، أو الأيديولوجيا.
- تفعيل القوانين بحزم وبدون تعسف
- وضع قوانين تجرّم التحريض على الكراهية والتمييز، من دون قمع حرية التعبير.
- مراقبة خطاب الكراهية في الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي.
- تطبيق العقوبات على من يحرض على العنف من دون المبالغة في رد الفعل، حتى لا يتحول المتعصّب إلى ضحية في نظر مؤيديه.
- خلق فرص اجتماعية واقتصادية
- التعصب ينمو في أغلب الأحيان في البيئة التي تعاني من الفقر والبطالة؛ لذلك يجب توفير فرص عمل، وتنمية مستدامة للمجتمعات الهشة.
- دعم المبادرات الشبابية والثقافية التي تعزز الاندماج والتعايش بين فئات المجتمع المختلفة.
- الحوار والدمج بدل العزل والإقصاء
- التعامل مع المتعصب بالحوار بدلاً من القمع؛ لأن القمع قد يزيده تعصباً، ويجعله متطرفاً.
- دعم برامج إعادة التأهيل الفكري لمن لديهم أفكار متشددة، خاصة في السجون، أو المجتمعات المغلقة.
- تشجيع الشخصيات المؤثرة والمعتدلة في المجتمع على نشر خطاب التسامح.
- تقوية الإعلام المسؤول
- الإعلام يجب أن يؤدي أثراً في كشف أخطار التعصب من دون تهويل، أو مبالغة.
- تسليط الضوء على قصص نجاح التعددية الثقافية والدينية؛ لتعزيز القيم الإيجابية.
أما التعامل مع المتطرف الذي غالباً ما يكون أكثر خطورة، وقد يشتمل سلوكه على تهديدات حقيقية للأمن والاستقرار. فالدولة المتحضرة تتعامل مع التطرف بأسلوب متكامل يجمع بين الأمن، والقانون، وإعادة التأهيل، والوقاية، وفقًا لمستوى خطورة الشخص المتطرف. على وفق طرائق أهمها:
- الإجراءات الأمنية والقانونية
- المراقبة والمتابعة من خلال رصد أي نشاطات متطرفة، خاصة تلك التي تدعو للعنف، أو التخريب.
- القضاء على شبكات التطرف بالعمل على تفكيك الجماعات، أو الشبكات التي تروج للتطرف من خلال الاستخبارات، والأمن الإلكتروني.
- العقوبات القانونية، وتتم من خلال تطبيق قوانين صارمة على من يشارك في أنشطة إرهابية، أو يدعو لها، مع ضمان عدم انتهاك حقوق الإنسان؛ حتى لا يُستخدم القمع ذريعة للتطرف المضاد.
- الحد من انتشار المحتوى المتطرف، ويتم من خلال حجب المواقع والمنصات التي تنشر أفكاراً متطرفة، أو تحرض على العنف، على وفق آلية إجرائية قانونية تكفل تحقيق الدعم المجتمعي لها، وتؤمن الضمانات القانونية، لمنع التعسف الحكومي، وتقييد حرية الرأي والتعبير، وتحقق قدر أكبر من الشفافية عند الفحص الدولي والأممي للمواقف الحكومية في أطار القانون، والدستور، والالتزامات الدولية.
- برامج إعادة التأهيل والتفكيك الفكري
- عدم الاكتفاء بسجن المتطرف والسعي لإعادة تأهيله فكرياً ونفسياً؛ حتى يعود إلى المجتمع بشكل طبيعي.
- اشراك علماء دين معتدلين، ومفكرين، وأخصائيين نفسيين للحوار مع المتطرف، وإقناعه بخطأ أفكاره.
- تقديم فرص للتعليم، والعمل، والتأهيل حتى لا يعود إلى التطرف بعد إطلاق سراحه.
- تجفيف منابع التطرف
- تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية: الفقر والتهميش يدفعان البعض إلى التطرف؛ لذا يجب على الدولة أن تعالج المشكلات التي تجعل التطرف خيارًا مغريًا للبعض.
- ضبط الخطاب الديني والإعلامي من خلال منع الشخصيات التي تروج للكراهية من التأثير في المجتمع، وتشجيع خطاب ديني معتدل، ويراعى أن تكون تلك القرارات شفافة، ومتوافقة مع الالتزامات القانونية والدستورية [1]الوطنية والدولية [2].
- توعية الشباب بإدخال مناهج دراسية، وبرامج توعية تسلط الضوء على مخاطر التطرف، مع تقديم نماذج إيجابية تعزز الانتماء والتسامح.
- مكافحة التطرف الإلكتروني
- وتتم من خلال إنشاء وحدات لمكافحة التطرف الإلكتروني تتولى مهام الرصد والمراقبة.
- إنتاج محتوى مضاد للتطرف يعرض حقيقة الجماعات المتطرفة، ويفضح أساليبهم.
- إشراك المجتمع المدني والمواطن
- تشجيع العائلات والمجتمعات المحلية، ومنظمات المجتمع المدني على التبليغ عن أي سلوك متطرف قبل أن يتحول إلى تهديد حقيقي.
- دعم المبادرات الشبابية والمجتمعية التي توفر بدائل صحية للانخراط في المجتمع؛ بدلًا من الاتجاه نحو الفكر المتطرف.
لكن متى تنزلق الدولة إلى فخ التطرف؟
عندما تتبنى الدولة سياسات قمعية ضد المعارضين، وتستخدم القوة المفرطة من دون معالجة الأسباب الجذرية للتعصب، فإنها تتحول بنفسها إلى نظام متطرف. وبعض الأخطاء التي تجعل الدول تنزلق إلى التطرف بدلاً من محاربته تشتمل على:
- فرض قوانين قمعية تُقيّد الحريات بحجة محاربة التطرف.
- استخدام العنف المفرط ضد أي معارضة.
- تبني خطاب ديني، أو قومي متطرف، يخلق الانقسامات داخل المجتمع.
- ممارسة التمييز ضد فئات معينة؛ مما يؤدي إلى تزايد الشعور بالظلم.
وفي مقاربتنا للوضع العراقي نسأل كيف وقع النظام الصدامي في فخ التطرف؟
نظام صدام حسين لم يواجه التطرف، بل تبنى سياسات تطرف للدولة بمؤسساتها؛ مما زاد من تفكك المجتمع العراقي؛ وقد شملت:
- الإقصاء الطائفي والقومي؛ مما أدى إلى تفاقم الاحتقان الداخلي.
- القمع الوحشي ضد أي معارضة؛ مما ولّد ردود فعل متطرفة.
- عسكرة المجتمع، وتحويله إلى بيئة حرب دائمة.
- تدمير الاقتصاد، وتجويع الشعب؛ مما دفع الكثيرين للبحث عن بدائل سياسية وجذرية.
فالقمع الممنهج على سبيل المثال ضد الشيعة في العراق جعلهم في مرمى الاستهداف المنهجي؛ إذ رأى النظام أنهم يمثلون تهديداً سياسياً. فكانت سياساته القمعية ضدهم متنوعة؛ لتشتمل على صور عدة أبرزها:
- تصفية المرجعيات الدينية، واغتيال الشخصيات الشيعية البارزة.
- حظر الشعائر الدينية الشيعية، واستهداف المراقد المقدسة.
- تهجير آلاف العوائل الشيعية؛ بحجة أن أصولهم غير عراقية.
- قمع الانتفاضة الشعبانية (1991) بوحشية غير مسبوقة.
- التغييب القسري لأبنائهم، ودفنهم في قبور جماعية.
- مواجهة حركاتهم السياسية بالمنع والتصفية في حملات إعدام جماعية.
- تدمير بيئتهم، وتهجيرهم، وإخضاعهم لأوضاع اقتصادية صعبة.
إلا أن السلوك المتقدم من القمع الممنهج ضد الشيعة لم تسلم منه باقي القوميات والأقليات في العراق؛ فسياسات قمعية مورست ضد القوميات غير العربية، والأقليات الدينية؛ بهدف فرض هيمنة الفكر القومي العربي البعثي أبرزها:
- تهجير الأكراد، وتدمير قراهم، وإعدامهم، ودفنهم في قبور جماعية خلال حملة الأنفال (1988)، وتدمير آلاف القرى الكردية، وتعريبها، وإحداث تغيير ديموغرافي؛ وقتل المئات باستخدام الأسلحة الكيميائية، ناهيك عن منع الأكراد من ممارسة حقوقهم الثقافية والسياسية.
- اضطهاد التركمان؛ فأبناء هذه الأقلية تعرضوا في كركوك وتلعفر لعمليات تعريب قسرية، وتم تهميشهم اقتصادياً وسياسياً.
- استهداف الأقليات الدينية. تعرض المسيحيون، والصابئة المندائيون، والإيزيديون لممارسات قمعية، منعوا بموجبها من ممارسة شعائرهم بحرية، وتم إجبار بعضهم على الهجرة، أو تغيير انتماءاتهم الثقافية.
النتائج النهائية لتطرف النظام الصدامي كانت كارثية، فقد أفرزت إلى:
- خلق معارضة شرسة داخل العراق وخارجه.
- كسر هيبة الدولة بعد الانتفاضة الشعبانية، وخروج الإقليم الكوردي عن دائرة النفوذ، والسيطرة المركزية.
- تمهيد الطريق لسقوط النظام في 2003؛ بسبب انعدام الثقة الشعبية به.
- تعزيز بيئة خصبة للتطرف المضاد؛ مما أدى إلى ظهور جماعات مسلحة بعد سقوط النظام.
- تدمير النسيج الاجتماعي العراقي؛ مما أدى إلى اضطرابات مستمرة بعد سقوط النظام.
لذا ينظر إلى تجربة العراق في عهد صدام حسين أنها تقدم درساً مهما لأي دولة ترغب في تجنب الفشل السياسي؛ إذ لا يمكن حكم المجتمع بالقمع، بل يجب بناء دولة قائمة على العدل، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان. فالسياسات المتطرفة لا تؤدي إلى الاستقرار، بل تُمهّد لانهيار الدولة عندما تواجه تحديات داخلية أو خارجية.
[1] نصت المادة 26 من دستور جمهورية العراق المؤقت للعام 1970 على” يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والاجتماع والتظاهر وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وفق أغراض الدستور، وفي حدود القانون. وتعمل الدولة على توفير الأسباب اللازمة لممارسة هذه الحريات التي تنسجم مع خط الثورة القومي التقدمي”.
[2] العراق مصادق على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وبالتالي فإنه ملزم بما تضمنته نص المادة 19 منه من حرية الاعتقاد وحرية الراي والتعبير، وأنه مصادق على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وهو ملزم بما تقرره المادة 4 منها بحظر الدعاية للكراهية، وتحقيق التوازن بين حرية التعبير، ومنع خطاب الكراهية