banarlogo

البعث.. انهيار وسقوط وهزيمة

أ.د. حسين الزيادي

 

 

سقوط ايدلوجية البعث في العراق وسوريا كان منعطفاً تاريخياً هائلاً يجب أن يدرس بعناية وعمق بعيداً عن السطحية، فتاريخ البعث وأفكاره وتجاربه؛ لم تعد ملكاً لأحد، بل هي حق متاح لكل مواطن وباحث يروم البحث عن الحقيقة؛ لذا يُعد اقتلاع البعث من جذوره، وبتياريه اليمين واليسار (فكرا وسلطة وإدارة) أمراً في غاية الأهمية؛ لأن هذا الفكر ترك إرثاً ثقيلاً، وندوباً بارزة، وجراحات غائرة في جسد الأمة المثخن بالجراح، من تداعيات وتراكمات وحروب ومشاكل تفاعلت خلال عقود السبعينيات، والثمانينيات، والتسعينيات، فالعقود التي حكم فيها البعث كانت مليئة بالتراجيديا المرعبة، والمشاهد الحزينة، والذكريات المؤلمة، والدول التي حكمها البعث لم تعرف طعم الراحة، ولم تستكن يوماً.

النشأة والهوية

البعث حزب سياسي علماني انقلابي، ظهر في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي على يد المفكر السوري ميشيل عفلق، الذي ينتمي للكنسية الشرقية، والسياسي صلاح الدين البيطار، والمدرس زكي الأرسوزي، وهو علوي من الإسكندرونة، تحول إلى الإلحاد، ويعد الأقدم بين مؤسسي الحزب، والإمعان في المحتوى والمضمون  الثقافي لهذا الفكر، وتحليل خطاباته يلحظ وجود مزيجاً  مركباً وغريباً من المتناقضات، والمثالية الزائفة غير القابلة للتطبيق في جزئها الأغلب، التي وضعت لجذب الجماهير في مرحلة امتازت بالفراغ الأيدلوجي، حتى أن البعث نفسه بمجرد أن استلم السلطة سواء في العراق، أو سوريا لم يعتد بتلك الشعارات، ولم يعبأ لوجودها؛ لأنها وضعت أصلاً لأهداف تتعلق بالوصول إلى السلطة، وفعلاً ما أن تحقق هذا الوصول حتى أظهر الحزب نفسه بوصفه نظاما شموليا، لا يعير أهمية للتيارات والآراء الأخرى ، وبدأت عملية عبادة الفرد تأخذ مجراها على وفق خطط وآليات جديدة، أما مفرداته وممارساته النظرية التي أفاضت بها كتبه ومناهجه فقد تحولت إلى ممارسات شوفينية؛ ديكتاتورية؛ استبدادية؛ شمولية، يسودها العنف والرعب، وتقوم على أساس تكبيل الشعب، وقهره، وإدخاله في متاهات طويلة، إمّا باحثاً عن لقمة العيش، أو هارباً لاجئاً، أو مضطهداً يعاني الإجحاف والتعسف، لا يمتلك برهة من الزمن ليفكر في عمق المأساة وسببها.

التطرف غير المعلن:

هذا الفكر كان يحمل في جنباته معاني التطرف العميق غير المعلن، وقد اتضح ذلك من خلال استبداده وتسلطه، والرغبة في سحق معارضيه، وإقصاء مناوئيه، فعن الوسائل التي يشرعنها البعث للوصول إلى السلطة يرى مؤسس الحزب في كتاب (في سبيل البعث) الذي يسمى بإنجيل الحزب أن: الانقلاب في نظر البعث ليس هو الطريق الصحيح لتحقيق مبادئه فحسب، بل هو أيضا محك واختبار لصدق تلك المبادئ وإخلاص من ينتمي إليها)، وتأسيساً لما تقدم نلحظ أن تاريخ البعث يكتظ بانقلابات عسكرية، أُزهقت فيها أرواح عشرات الآلاف من الضحايا.

القومية والإسلام

إن القومية التي نادى بها البعث كان لها أثر سلبي من جهتين؛ فهي لم تنجح لتكون جامعة لأطياف المجتمع العربي؛ لأنها حاولت أن تصهر الجميع ببودقتها، من دون مراعاة للانتماءات القومية الأخرى، ومن جهة أخرى أضعفت بل مزقت الرباط الإسلامي الذي كان الرابطة الرئيسة للأمة، وقد تناسى البعث أن الإسلام هو من أعطى العروبة مكانتها، وميزها من غيرها، وليس العكس، وذهب البعث إلى أبعد من ذلك فاعتبر أن رسالة الإسلام جاءت للعرب؛ لأنهم الأكثر قابلية على حملها، ووفقا لهذا المنطلق لا يجوز لفقيه أن يخوض في الإسلام وأحكامه، وهذه نظرة قاصرة تكشف عن نظرية لا حظ لها من الصحة تحمل أبعاداً عنصرية مقيتة، وتعصب أعمى. والبعث ضمن هذا الجانب يضع نفسه بديلاً حقيقاً للدين، وهو أمر يمكن الاستدلال عليه من بعض ما جاء في تقرير المؤتمر القطري التاسع؛ إذ يتساءل ميشيل عفلق قائلاً: إذا كان بعض الرفاق يسلك ممارسات التدين كبديل أخلاقي، أو عقائدي عن حزب البعث، فلماذا اختاروا الانتماء للحزب؟، وهذه العبارة وغيرها كثير تنم عن فكرة مهمة، هي أن البعث أراد أن يسوّق نفسه بديلاً عن كل الانتماءات.

التخلي عن الشعارات

من الشعارات الرئيسة التي تظهر مبادئ الحزب وأيديولوجيته، التي لم يتحقق منها شيء، شعار الوحدة، والحرية، والاشتراكية، فأما الوحدة التي تصدّرت أهدافه؛ فقد ضربها البعث في الصميم عندما أصبح مصدر تهديد لجيرانه، وتبنّى البعث مبدأ الحرية، لكنه أمعن في قمع شعبه، وملأ الزنازين بمعارضيه، وصدح بالاشتراكية بوصفها نظام اقتصادي، لكن الحقيقة أظهرت تكدس الأموال عند قطاعات معينة، ونادى البعث بالقومية وانتهى بنظام عسكرة المجتمع، بشكل لم تشهد له دول العالم مثيلاً، وتعد القومية المادة الخام لصناعة البعث، التي حاول البعث أن يجعلها بديلا عن الدين، وعن الوطنية، والبعث بشقيه السوري والعراقي يتفق تماماً على محتوى القومي لفكره، لكن حتى هذا المحتوى لم يكن صادقاً في طرحه، فجعل منها سيفاً مسلطاً على الشعوب، وذهب بها إلى أفق ضيق، فكانت أقرب إلى العنصرية، وتعززت من خلالها نظرية الولاء الأعمى للحاكم أكثر من الالتزام العميق بالعدالة والإنسانية، فالمبدأ القومي للبعث كان بمنتهى البساطة يفتقد إلى أدنى مراتب الأخلاق، وحاول نظام البعث أن يتفنن في صناعة تاريخ مثالي، يجعله يتناسب مع قوميته، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة التاريخية.

انهيار الأيدلوجية

إن جناحي البعث في سوريا أو العراق كان هدفهما الرئيس البحث عن أسباب البقاء في السلطة لأبعد مدة ممكنة، ولم يكن هناك تفكير حقيقي بإقامة نظام ديمقراطي، أو مجتمع حر، ومن هذا المنطلق أفرز الحزب حكومات مركزية سلطوية ومتسلطة، ترتكز على نظام الدولة البوليسية، والقوة العسكرية، حتى أن الرغبة في الزعامة أدت إلى تجزّؤ الحزب نفسه في العراق وسوريا، على الرغم من وحدة المشرب الفكري، والامتداد الجغرافي، والعمق الحضاري، والتاريخي المشترك،  أما إمكانات الدولة؛ فقد جُيّرت برمتها لخدمة الحزب، حتى أن بعض القطاعات كالأعلام والتربية والدفاع أصبحت مؤسسات خدمية تمتثل لعبادة الفرد، واستمرار بقائه في السلطة، أما السلطة القضائية؛ فهي الأخرى نالت نصيبها من الأدلجة الفكرية، وأصبحت تسير في فلك الحزب، وتنفذ رغباته، وكانت المحاكم الخاصة حاضرة في بعض الأحيان؛ لتحقيق مآرب السلطة، وأهدافها، فكانت المحاكمات الصورية تجرى على قدم وساق؛ للتخلص من معارضي السلطة، وبهذا فإن ما فعله البعث في البلاد العربية التي حكمها خلال القرن المنصرم لم يفعله أي عدو خارجي، بل لقد كان تأثيره أشد وطأة على تهالك البلاد، وافتقار العباد، وديمومة التفكك، والوصول بها إلى الحضيض، ولم تلمس الشعوب أياً من الشعارات التي كانت ترفع، فكان انهيار أيدلوجية البعث النتيجة الطبيعية التي لا مناص منها لفكر شوفيني لا يؤمن بوجود الآخر، فرحل تاركاً إرثاً ثقيلاً، وتركة أليمة، وأصبحت تنظيراته رمادا تذروها الرياح.

التناقضات في الطروحات

إن القراءة التحليلية لكتاب (في سبيل البعث)، الذي يضم بين طياته الطروحات الفكرية للحزب، تبين أنه طافح بالتناقضات والغموض الذي  يستجيب للتأويل بطرق شتى، فتارة ينظر مؤسس الحزب إلى الدين على أنه عامل تفرقة وانقسام في المجتمع؛   فيقول: (أما الظاهرة الدينية في العصر الراهن؛ فإنها ظاهرة سلفية ومتخلفة في النظرة والممارسة)، وتارة يراه عامل قوة واتحاد كما في النص: ( الحزب يعتز أكثر ما يعتز بنظرته الجديدة إلى الإسلام، وعلاقته العضوية بالعروبة)، واعتبار الإسلام على وفق مفهوم الحزب هو الثقافة القومية الموحدة للعرب على اختلاف أديانهم ومذاهبهم،  وفي مجال آخر يصف مؤسس الحزب الأمة العربية بالحاضنة لجميع الأقليات القومية والمتفاعلة معها،  لكنه في مجال آخر يقول على الجميع أن ينصهروا في القومية العربية، فلا مجال للتفرق والتعدد، بل ذهب البعث إلى أبعد من ذلك عندما استلم السلطة؛ ليقوم بترحيل مئات الآلاف من العرب بحجة التبعية، على الرغم من أنهم ولدوا في العراق منذ مئات السنين، وشاركوا في الدفاع عنه، وعايشوا أحداثه.