التطرف في مواجهة الفطرة

الأستاذ المساعد الدكتور
رائد عبيس
عضو المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف
لا يمكن أن نعدّ التطرف جزءاً من الفطرة السليمة، بل هو حالة تحول إلى نقيضها تماما، وهذا التحول يحتاج إلى دراسة متعددة الأبعاد؛ حتى تفهم الدوافع والبواعث، والأسباب الموجبة لتطوره وتناميه في ذهنية الفرد، ومنعه من التحول إلى ظاهرة اجتماعية، أو سياسية، أو دينية. وكثيرا ما يتحول التطرف الفردي إلى ظواهر مما ذكرنا بفعل عوامل كثيرة، مثل: التسلط، والزعامة، والتأثير الروحي للتطرف في عقول الآخرين، الذي يساعد على خلق أتباع متأثرين بالخطاب المتطرف، وعده جزءاً من عقيدة الطاعة، والخضوع، والقبول، والولاء.
وكثيرا ما نشاهد ذلك مع التيارات اليمينية المتطرفة، أو التيارات اليسارية المتطرفة على المستوى التنظيمي، ولاسيما السياسي، أما في التيارات الدينية فيكون فيها الزعيم الروحي هو المرجع الفكري لهذا التطرف، وتكسب كارزماه القيادية تأثيراً مبالغاً فيه في تقمص الأدوار، وفي تلقي الأفكار على أنها مسلمات عقلية غير قابلة للنقد. وهذا النموذج من التطرف سرعان ما تتبناه العقول الضعيفة، ويتحول بعدها إلى عقيدة وتيار وفكر وحركة شعبية عامة تقوي من وجود أي سلطة، وتعزز انتشارها.
ولعل هذا أحد أكبر الأخطاء الذي أرتكبها المجرم صدام حسين في تحويل التطرف العقائدي إلى تطرف سياسي في مواجهة الفطرة العقائدية للعراقيين.
فكان (التطرف البعثي) الذي يجمع بين هذين النموذجين من التطرف في عنوان واحد، ومفهوم واحد، كأحد أدوات مجابهة الفطرة العقائدية العراقية لأبناء الوسط والجنوب بوصفه مجتمعا متدينا يعتمد الفطرة الدينية، كركيزة من ركائز الإيمان، والطقوسية الدينية، والشعائرية. جابهَ صدام ومنظومته السياسية هذه الفطرة بغباء سياسي مطلق، ولاسيما عندما عد الشيعة تبعية للخميني فمارس بحقهم تطرف عقائدي وقومي بشكل واضح، وترجمه كتطرف سياسي، فحول جميع أبناء هذه المجتمع إلى أعداء له، وعدهم كذلك. وأتبع سياسة تجنيد من تلوثت فطرتهم؛ نتيجة عوامل سياسية واجتماعية كثيرة كان قد أسهم حزب البعث في إيجادها وزراعتها بين صفوف المجتمع حتى يشرخ هذه العقيدة والفطرة، بمحاربتها من داخل صفوف المجتمع، ومن بعض أبنائه الذين لوثتهم عقيدة البعث وسياسته.
وكان أعضاء الفرق الحزبية يلقون على الناس المحاضرات الإجبارية لتثقيفهم، على أن سلوك الفطرة الدينية التي اعتاد عليها الناس طقوسيا وشعائريا أنها جزء من التخلف والرجعية التي تهدد المدنية، وأمن الدولة، ومعالم العصرنة التي يريد أن يكابر بها البعث على الفطرة العقائدية للناس.
ومن أسس هذه الفطرة الإيمانية هي تعلق العراقيين عامة، والشيعة خاصة بأهل البيت (عليهم السلام)، وبمراقدهم المقدسة، إذ اعتادوا على زيارتها والتبرك بها طيلة أيام السنة. ولاسيما زيارة المشي إلى الحسين (عليه السلام) في يومي العاشر من محرم الحرام، والعشرين من صفر؛ يوم زيارة أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) في هاتين المناسبتين يستنفر حزب البعث المتطرف في مواجهة هذه الفطرة عقائديا وإجرائياً، إذ تصدر منهم الكتب الرسمية التي توجه بمعاقبة من يزور مشيا بأقصى أنواع العقوبات، إلى جانب ذلك يكثر لديهم النشاط التنظيمي في عقد الاجتماعات، واللقاءات، والتوجيهات المستمرة إلى أعضاء الحزب، وإلى المجتمع، فتارة يستغلون وسائل الإعلام، وتارة أخرى الاجتماعات؛ لكي يحذروا من الزوار مشياً، متحججين بذلك بمسائل عدة، بحسب ما اطلعنا عليه في بعض الوثاق التي توفرت في المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف منها:
1- أنها سلوك رجعي يجب القضاء عليه.
2- أنها تهدد أمن الدولة؛ خوفا من تسرب عناصر مخربة فيها.
3- أن الدولة وفرت وسائط نقل على الناس أن يستقلوها؛ لأن ذلك ليس من مظاهر المدنية.
واتضح من خلال بعض الوثائق أن سياسة حزب البعث المتطرف في مواجهة فطرة الإيمان بالقضية الحسينية، إنها تعارض الإيمان بعقيدة البعث، وكان مثال ذلك: الوثيقة التي تشير إلى تعهد مجموعة من عناصر البعث بأنهم لن يزورا الحسين (عليه السلام)!
وناقض صدام هذا المنع عند زيارته للعتبات المقدسة في كربلاء، وبغداد، والنجف، وكشف عن جوهر النفاق، والتبعية الذليلة عند بعض الرفاق البعثيين في التطرف بالولاء الحزبي على حساب المعتقد. ولعلها محاولة تفريق بين المقدسات ومن يتهم من زوارها بالعمالة والتحزب.
4- أريد للعقيدة البعثية أن تكون أقوى من عقيدة الفطرة، من خلال شعار الحزب ومبادئه وفدائيه (الله، الوطن، القائد).
5- أن من يزور مشياً يعد مخالفاً للقانون، ويعطل مصالح الدولة.
6- الإصرار على المشي يعد تحدياً لإرادة الدولة، والحزب، والقيادة، ويكسر من رغبتها في فرض سلطتها. بعد إعلان قرارات المنع.
وأنا شخصيا شهدت حالة من قبيل ذلك، أتذكر مجموعة من النسوة كانت تمشي للزيارة على الأقدام، فلحقت بهن سيارة من نوع لاندكروز، وقام الرفاق الحزبيين بأركابهن رغماً على إرادتهم، وسمعت أحدهم يقول لهن: ” إذا أردتن الزيارة أذهبن بالسيارة لا مشياً، ما هذا التخلف؟”.
نتج عن هذه الأسباب، صدور قرارات عقابية خارج قانون العقوبات العراقي، وخارج تشريعات الدستور التي نصت على احترام الدين والمعتقدات. وقرارات إلقاء القبض، مثلما جاء بالوثيقة المرقمة في 7/1/3361 الصادرة في 21/6/1997 عن مديرية أمن واسط، وهي من وثائق المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف. وهناك وثائق أخرى تشير إلى أخذ التعهدات من قبل من يتهم بإقامة المراسيم الحسينية في البيوت، وإقامة مجالس العزاء، أو قراءة أي مجالس للعزاء خلال شهر محرم وصفر، ولعله محظوظ ذلك الذي يؤخذ منه التعهد من دون اعتقال، أو تعذيب، أو حبس، أو حكم إعدام. المعنى الحقيقي لهذا المنع هو حظر الدمعة والحسرة والحزن على الحسين (عليه السلام). فأي تطرف هذا الذي يطلب منك أن تحبس مشاعرك؟! وهذا كان تجاه الحسين (عليه السلام) المقتول قبل 1400 سنة، إلا أنه يتكرر مراراً أيضاً مع أهالي الضحايا المعدومين، إذ صدرت قرارات حزبية وأمنية بمنع إقامة مجالس العزاء، أو تقبل التعازي، أو الحداد، أو لبس السواد، أو حتى الصراخ والعويل والبكاء. وهذا يؤكد اتباع ذات السياسة المتطرفة اتجاه الفطرة.
أما الوثيقة المرقمة 1107 الصادرة في 15/1/1996 عن مديرية شرطة الثورة، كانت قد وجهت كتابا لاستدعاء المواطن (ط، ج، ح)، والتحقيق معه؛ لأنه شوهد يمشي على الطريق العام، ويهتف (بردّات حسينية)، يقال في الوثيقة إنها (كانت ذات دلالات غير طبيعية)، ولا نعرف ما الدلالة الطبيعية وغير الطبيعة في سياسة البعث المتطرفة اتجاه هذه الممارسة الطقوسية الدينية؟ وهناك وثيقة أخرى كانت سرية للغاية تحمل الرقم 2710 صادرة في 18/6/1997 عن مديرية أمن واسط، تتضمن توجيهات بمناسبة زيارة الأربعين، تؤكد أوامر إلقاء القبض على عدد ممن يرومون المشي إلى كربلاء، بحسب ما جاء في الوثيقة.
وكثيرة هي الوثائق الحزبية والإدارية التي تصدر بمناسبة زيارة الأربعين، وهي تحمل مضامين مختلفة، بين توجيهات، ومنع، واعتقال، وتحقيق، وإلقاء قبض، وحبس، ومراقبة، وترقب، أو تصدر بمناسبات دينية أخرى غير زيارة الأربعين لبقية الأئمة والمراقد المقدسة في العراق.
هذا التطرف والتعسف البعثي في مواجهة الفطرة الدينية عند العراقيين هو من ساعد بشكل كبير على زعزعة نظام البعث، وتهديد أركانه، إذ بات بقلق بالغ طيلة أيام سلطته من مخاوف الثورة عليه، وعلى حزبه انطلاقاً من هذا التمسك الفطري والعفوي لأهل بيت (عليهم السلام)، والخوف من حكم الشيعة وتمردهم. وما حدث من معارضة للنظام من قبل أحزاب دينية، والانتفاضة الشعبانية، وظهور محمد محمد صادق الصدر, وقتل العلماء الشيعة، كان يؤكد هذه الفرضية بأن الفطرة الدينية هي أقوى من العقيدة البعثية التي كان يطرحها البعث كبديل لعامة الشعب. ويؤكد أيضا التطرف المقيت الذي مارسه النظام بكل وحشية، متحدياً العمق الوجداني للعراقيين.