banarlogo

انتفاضة صَفر الخالدة.. شهداء على طريق الأربعين الجزء الثالث

 أ.د. حسين الزيادي
    أدى القمع الوحشي للمواطنين الأبرياء الذين يمارسون شعائرهم الدينية إلى حالة من الغليان الشعبي، وأماطت اللثام عن الوجه الإجرامي لنظام البعث، ومثلت انتفاضة النجف 1977 أول حركة شعبية هزت هذا النظام من الصميم، وكانت على درجة عالية من التنظيم والتخطيط على الرغم من عدم وجود حزب، أو جهة سياسية وراء انطلاقها، إلا أنها تنتمي للشعائر الحسينية التي كانت وما زالت بطبيعتها ذات عمل منظم شعبياً.
    بعد تنفيذ أحكام الإعدام، وإطلاق الأحكام غير القانونية بحق المنتفضين، مارس البعث كعادته في هكذا مواقف تعتيماً إعلامياً شديداً، فضلاً عن تشويهه لحقائق الانتفاضة وأسبابها؛ لكي لا تثير تلك الأحداث الرأي العام في دول العالم، ولاسيما الدول الإسلامية، وعلى الرغم من هذا التعتيم إلا أن بعض الدول أصدرت عدداً من البيانات والبرقيات شجبت أساليب السلطات البعثية في قمع الانتفاضة، كما هو الحال في لبنان، وإيران، وباكستان، والهند، وبعض دول الخليج وأوروبا، وورد في تقـرير منظمة العفو الدولية أن إعدام المعتقلين كان لتُهم (غير مقنعة)، على حد تعبير التقرير، فيما سوغت الحكومة اعتراضات المنظمة المذكورة على أحكام الإعدام، بأن هذا النوع من المحاكم ضروري للقضاء على الطائفية التي يغذيها أعداء الشعب على حد تعبيرها، ومن جانب آخر لم تكتفِ السلطات بإعدام المعتقلين، بل عمدت إلى منع إقامة المآتم والمراثي العزائية على أرواحهم، وأخذت باعتقال أي شخص يقوم بزيارة قبورهم، وفرضت الرقابة على الطرق المؤدية إلى تلك القبور.
      أصدر وزير الداخلية آنذاك (عزت الدوري) في السابع والعشرين من حزيران 1977 تقريراً رفعه إلى أمين سر القطر أحمد حسن البكر، وقد تضمن التقرير على نقاط عدة، تهدف إلى القضاء على الشعائر الحسينية بشكل تدريجي، وهي أشبه بمقترحات، كان أهمها ما ورد في النقاط الآتية:
 1- الاستمرار بتوعية الجماهير بحقيقة توجه الحزب الرامي إلى تخليص الدين، والمناسبات الدينية المقدسة من الممارسات والتعبيرات الخاطئة.
2- السماح للمواطنين بإقامة مجالس العزاء الحسينية بشكل محدود، واتخاذ الإجراءات المناسبة بخصوص الموافقات والتعهدات.
3– عدم التعرض لظاهرة المشي في الوقت الحاضر، والاستمرار بالتثقيف على أن المشي من الأمور الضارة بالقياس إلى المراسيم الحسينية الصحيحة.
4– العمل على توجيه الرواديد، والقراء، والخطباء، لتكون قصائدهم، وخطبهم موجهة لخدمة الحزب والثورة، وتحذير المسيئين منهم.
5- السيطرة على دخول الزوار خلال الفترات المذكورة، وعدم إعطاء التأشيرات للأجانب بالدخول إلى العراق، كذلك منع العسكريين من التمتع بإجازاتهم خلال الزيارة الأربعينية.
6 – تشريع قانون خاص يقضي بمنع رفع اللافتات السياسية والدينية في الشوارع، والطرقات، والمحلات العامة والخاصة، إلا بأذن من أمانة العاصمة، أو البلدية، وتقدم الجهة أو المنظمة المخالفة إلى الجهات المختصة؛ لمحاسبتها، ومنع الكتابات على الجدران مهما كانت أنواعها في جميع المناسبات.
7- إعادة الأذهان إلى القرارات السابقة بمنع جمع التبرعات والإعانات لأي جهة كانت، إلا بعد أخذ موافقة وزارة الداخلية، والحصول على كتاب يؤيد ذلك.
8- تطبيق قانون منع الضوضاء، فيما يخص الفواتح، واستعمال السماعات، وأجهزة التـسجيل.
 ومما ورد في التقرير أعلاه نرى جلياً حجم الخوف والهلع الذي انتاب سلطة البعث من الشعائر الحسينية، فحاولت بشتى الطرائق والأساليب، للحد منها وتقليصها، من خلال منع المواكب والمسير على الأقدام، ومنع رفع اللافتات، والصور الحسينية، ومنع التبرعات، فضلاً عن تقييد الخطباء والرواديد بما يقرأون، إلا أن كل تلك الإجراءات  لم تثنِ من عزم الزائرين من مواصلة شعائرهم الحسينية، وبالخصوص شعيرة المسيرة الراجلة إلى كربلاء المقدسة، ففي السنة التالية انطلقت الجماهير الحسينية، وكعادتها لأحياء الذكرى السنوية لأربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) في التاسع والعشرين من كانون الثاني 1978 ( العشرين من صفر 1398 هـ)، وعلى الرغم من تضييق الخناق على الزائرين، من خلال الإجراءات الحكومية المشددة، إلا أن أجهزة السلطة لم تستطع منع الأعداد الكبيرة للزائرين في ذلك العام، إذ توافد الزوار بشكل طبيعي ومستمر، إذ وصل قسم منهم سيراً على الأقدام، وقد اكتظت المحافظة بالزوار، وشاركت كثير من المواكب العزائية ومن مختلف المحافظات في إحياء ذكرى يوم الأربعين.
  إن التقويم القانوني لإجراءات سلطة البعث بخصوص قمع الانتفاضة، والأحكام التي أطلقتها اللجنة الخاصة بالتحقيق في الانتفاضة؛ تظهر بوضوح انتهاكاً صارخاً لكل الأعراف والمواثيق الدولية، وخرقاً للدستور العراقي 1970 الذي يفترض أن تخضع له سلطة البعث، فقد شُكلت لجنة تحقيقية بقرار من مجلس قيادة الثورة مكونة من (عزة مصطفى)، وهو وزير الصحة، وعضوية وزير الصناعة والمعادن (فليح حسن الجاسم)،  وعضوية (حسن العامري) وهو عضو قيادة قطرية، وهو من وقّع على أوامر الإعدام، وامتعض العضويين الأخريين على أحكام الإعدام المعدة سلفاً.
وبعد انتهاء المحاكمة عقد اجتماع لمجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية لحزب البعث، وتقرر على أثره فصل عزة مصطفى وفليح حسن الجاسم من مناصبهم الإدارية والحزبية كافة، ووضعهما تحت الإقامة الجبرية، إذ تم نفي (عزة مصطفى) إلى قضاء عانة في محافظة الأنبار، وعُيّن طبيباً هناك، أما (فليح حسن الجاسم)؛ فنفي إلى تكريت، معلماً في مدرسة العلم الابتدائية للبنين، وظل تحت مراقبة أجهزة الأمن، وفي أثناء قضائه وعائلته العطلة الصيفية في قضاء المقدادية تم اغتياله من قبل قوة حكومية اعترضت طريق عودته من سوق المقدادية يوم 9/8/1982 .
  • صحيفة الجمهورية، (بغداد)، العدد 2913، 24 آذار 1977، صحيفة الثورة، (بغداد)، العدد 1397، 24 آذار 1977.
  • رعد الموسوي، انتفاضة صفر الإسلامية في العراق 1397 هـ، ط2، بلا مط، قم، 1983.
  • عبد الرضا كاظم، مأساة العنف في العراق 1963 – 2003، دار الجواهري، بغداد، 2013.
  • علي صالح عباس الحسناوي، التطورات السياسية الداخلية في العراق1973- 1979، رسالة ماجستير، جامعة كربلاء،2017.