د. حسن موات الفرطوسي
لم يكتفِ النظام البعثي في العراق بسياسته العنصرية، وإقصاء أغلبية الشعب العراقي من المشاركة في الحكم، بل لجأ إلى ممارسة أسلوبه الطائفي القمعي تجاه أبناء الشعب من المذهب الشيعي، وبدأ يضيق الخناق على ممارسة شعائرهم الدينية، إذ كان إحياء الشعائر الحسينية من قبل الشيعة، وتجمعهم في مدن كربلاء والنجف الأشرف تبعث الخوف في نفوس البعثيين؛ لما لهذه المناسبة من رسائل عدة، منها إظهار الشيعة كقوة موحدة تتحدى الأجهزة الأمنية في أحيائها، وتؤكد ولاءها لمرجعيتها الدينية، فضلاً عن الشعارات التي ترفع ضد الظلم، والاضطهاد، والتمسك بقيم الإسلام، والاستعداد للتضحية من أجل تلك العقيدة تأسياً بسبط رسول الله الإمام الحسين (عليه السلام).
وبناءً على تلك المعطيات واستمراراً لسياسة حزب البعث الطائفية والعنصرية تجاه أبناء محافظات الوسط والجنوب وجهت السلطة أجهزتها الأمنية باتخاذ السبل كافة؛ لإيقاف مظاهر العزاء الحسيني، بل شددت من إجراءاتها، وبادرت السلطة كعادتها بتطبيق سياستها الإرهابية تجاه الشعب، إذ أصدرت في (3) كانون الثاني 1976 قراراً يمنع إقامة الشعائر الحسينية، وبدأت الحكومة بحملة اعتقالات واسعة شملت عدداً من الشعراء الحسينيين والرواديد، وعدداً من مسؤولي المواكب الحسينية(1).
وقد أثارت تلك الإجراءات الشعب العراقي، وزادت من إصراره على تحدي الطغاة، وعندما اقترب موعد المسيرة الحسينية، وزع منظمو المواكب الحسينية منشورات تدعو لإحياء المسيرة الحسينية، وجعلوا من تحدي السلطة البعثية، وإقامة تلك الشعائر هو الجائزة الكبرى، وتنفيذا لقراراته أعد النظام البعثي الخطط العسكرية اللازمة؛ لمنع تلك الشعيرة، إذ أعلنت الحكومة في شباط 1977 قرارها القاضي بمنع المسيرات الراجلة إلى كربلاء لإحياء زيارة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) رافقتها اعتقالات واسعة ، فضلاً عن زيادة أعداد الأجهزة الأمنية في النجف الأشرف؛ لمنع المسيرة الحسينية(2).
وقد أدى تمادي النظام البعثي في إجراءاته القمعية في مدينة النجف إلى غضب شعبي، وبعد توافد أبناء وسط العراق وجنوبه إلى النجف الأشرف للمشاركة في المسيرة الحسينية تجاه كربلاء المقدسة، حاولت السلطة ثنيهم من خلال الترهيب والوعيد، واجتمع محافظ النجف والمسؤولون الحكوميون والبعثيون بوجهاء المدينة ورؤساء المواكب الحسينية في يوم (3) شباط 1977، إذ أبلغ المحافظ الحاضرين بقرار السلطة القاضي بمنع الشعائر الحسينية، ومنها المسيرة الحسينية اتجاه كربلاء التي تخرج من النجف الأشرف كل عام، بحجة القبض على عميل سوري اعترف بوجود مؤامرة لزرع قنبلة موقوتة في ضريح الإمام العباس (عليه السلام)، وهو ما رفضه الحاضرون، فما كان من المحافظ إلّا أنّهُ أصر على تنفيذ قرار السلطة في منع خروج الزائرين إلى كربلاء، مهددا بأشد العقوبات التي ستطال المشاركين بها؛ في حين رفض الحاضرون تلك الأوامر بشدة، وجاء قول (عباس عجينه) أحد أصحاب المواكب الحسينية متحديا محافظ النجف الأشرف، بقوله ((نحن سنخرج غدا للحسين (عليه السلام) فافعلوا ما شئتم ))(3).
وفي صباح يوم الجمعة الخامس عشر من صفر الموافق (4) شباط 1977 خرج الشباب والكبار والنساء والأطفال من مختلف مناطق النجف الأشرف، وأغلقت المحلات أبوابها، واتجهت الجموع الغاضبة إلى ضريح الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهم يحملون الرايات الحسينية متحدين عناصر أجهزة السلطة الذين انتشروا في المدينة الذين حاولوا بكل الطرق تشتيت تلك الجموع، إلّا أنّهم فشلوا بمهمتهم، ووصل المعزون الغاضبون إلى ضريح الإمام علي (عليه السلام)(4).
نجح الثائرون بكسر الطوق الأمني للسلطة على ضريح أمير المؤمنين، ثم بدأت المسيرة الحسينية لما يقارب من (30) ألفاً إلى الطريق الرئيس المؤدي إلى كربلاء ، إذ كانت المسيرة الحسينية يكبر حجمها كل ساعة؛ بسبب التحاق الأهالي في كل منطقة تمر بها، وعند وصولهم ( خان النص) تعرضت لهم القوات الأمنية إلّا أنّهم تمكنوا من مقاومتها، واشتبكوا معهم، وبدأوا في مهاجمة سيارات الشرطة والأمن الذين يرومون القبض على المشاركين في المسيرة، وأثارت الاشتباكات بين الطرفين الغضب في نفوس المشاركين في المسيرة الحسينية، وتحولت من مسيرة حسينية إلى تظاهرة كبرى ضد النظام البعثي ورموزه، رددت فيها الشعارات الرافضة للسياسات البعثية الطائفية والدكتاتورية، إذ كان من بين تلك الهتافات: ” صدام كله للبكر هذا حسين منعوفه”، ” يصدام شيل ايدك هذا الشعب ميريدك”.
هالله هـــالله حسين وينه والبعث كايم علينا
هالله هـــالله حسين وينه بالسلاح مطوقينا
هالله هـــالله حسين وينه بالرصاص مهددينا (5)
وفي أثناء المسيرة التي وصلت إلى خان النص في ناحية الحيدرية (35 كم) عن النجف، حدثت اشتباكات بالسلاح الأبيض مع عناصر الأجهزة الأمنية التي بادرت بإطلاق الرصاص الحي على الزائرين؛ مما أدى إلى قتل امرأة وصبي بعمر (14) سنة، إلّا أنَّ الزائرين تمكنوا من السيطرة على مديرية شرطة الناحية وسجنها، إذ أطلقوا سراح أخوتهم الزائرين الذين اعتقلتهم قوات الأمن(6).
وفي السياق نفسه وصلت أنباء هجوم القوات الحكومية على الزائرين في (خان النص) إلى مدينة النجف الأشرف، إذ خرجت على إثرها تظاهرة نسوية اتجهت إلى مبنى المحافظة، سرعان ما التحق بها كثير من الرجال، وهددوا بتظاهرات كبيرة إذا لم يسمح لهم الالتحاق بالمسيرة الحسينية؛ ممّا أجبر السلطة تحت ضغط الحشود إلى الموافقة والسماح لهم بالذهاب إلى (خان النص).
وبعد أنْ فشل النظام البعثي بإيقاف الزحف الحسيني الغاضب أندلعت مظاهرة غاضبة ضد النظام القمعي، أدت إلى إثارة الرعب في صفوف القيادة البعثية، فقرر النظام البعثي استخدام صنوفه العسكرية، والأمنية كافة؛ للقضاء على تلك الثورة، واتصلت القيادة البعثية بالحزب الشيوعي؛ لتنسيق الجهود والتعاون في مواجهة الثورة في وسط العراق، وبالتالي أعلن النظام حالة الطوارئ القصوى للقوات المسلحة، والنفير العام في صفوف حزب البعث، وأصدرت قيادة البعث الأوامر إلى الجيش، والشرطة، وأجهزة الأمن، والمخابرات بسحق الانتفاضة التي يقودها أبناء محافظات الوسط والجنوب من النجف؛ لتحدي النظام البعثي(7).
استخدم النظام البعثي ترسانته العسكرية لإرهاب الشعب الأعزل، فأنزل في الصباح الباكر من يوم (7) شباط 1977 قواته العسكرية إلى الطريق الرابط بين النجف وكربلاء المقدسة، إذ حاصر اللواء المدرع السادس للجيش تعززه طائرتان حربية، وطائرات مروحية، وأعداد من مختلف تشكيلات الأجهزة الأمنية؛ الزائرين العزل السائرين على الأقدام؛ ونتيجة لتلك الأوضاع أخذ الثائرون يسلكون الطرق الزراعية، ويحتمون ببساتين النخيل، إذ قطعت القوات الحكومية الطريق الرئيس، وبدأت عملية الهجوم العسكري على المسيرة الحسينية، إلّا أنَّ كثيراً من الثائرين تمكن من الوصول إلى ضريح الإمام الحسين (عليه السلام)، وتأدية زيارة الأربعين، وهكذا عاش أهالي محافظات وسط العراق وجنوبه يوماً عصيباً عليهم(8).
وبطبيعة الحال فإنَّ القوات الحكومية نفذت خلال يومي (6 و 7) عمليات اعتقال عشوائية طالت الآلاف من المشاركين في المسيرة الحسينية، قدرت أعدادهم بحدود ثلاثين الف معتقل، امتلأت بهم سجون النجف الأشرف، وكربلاء، والكوفة، والحلة، ومديرية الأمن العام في بغداد، وبعد أن اكتظت تلك السجون بالمعتقلين بمختلف الأعمار نقل عدد كبير من رؤساء الهيئات الحسينية، ورجال الدين إلى معسكرات الجيش، وبخاصة سجن رقم واحد في معسكر الرشيد(9).
طالت عمليات الاعتقال كثيرا من رجال الدين، والرموز الاجتماعية، إذ اعتقل في (7) آذار 1977 كل من المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد باقر الحكيم، اللذين وجهت لهما تهم قيادة الانتفاضة، وتجدر الإشارة إلى أنَّ مجلس قيادة الثورة للنظام البعثي أصدر في (13 و14) شباط 1977 القرارين (116) و (173) واللذين بموجبهما تشكّلت هيأة تحقيقية خاصة (الهيأة التحقيقية الخاصة في سجن رقم واحد)، الذي بلغ عدد المعتقلين فيه (2502) معتقل، تعرضوا لأبشع وسائل التعذيب، والتنكيل، ونال بعضهم حكم الإعدام، أو السجن المؤبد بمحاكمات صورية، لا ذنب لهم سوى أنهم وقفوا إلى جانب الحسين (عليه السلام) في رفض الظلم والاضطهاد(10).
وخلاصة القول إنَّ انتفاضة صفر (1977) التي قادها أبناء وسط العراق وجنوبه أرست قواعد فكرية وجهادية لدى القوى الإسلامية في محافظات وسط العراق وجنوبه ، وأثبتت للمواطنين بأنهم أقوى من النظام البعثي الحاكم مهما تمادى في طغيانه، إذ أحدثت تلك الانتفاضة، والتحدي لإجراءات النظام البعثي هزة في النظام البعثي الذي أعاد جمع حساباته، وغيّر في مناصب عدة، ورسخ سياسته التفردية، إذ عمل حزب البعث بعد تلك الانتفاضة إلى تكثيف الجهود؛ لجعل المؤسسات جميعاً تحت إشرافه مباشرة ، وتأكد من قوة التيار الإسلامي الذي شدد البعث إجراءاته القمعية ضده.
المصادر
1- المركز العراقي للمعلومات والدراسات، دليل الوزارات العراقية 1920 – 2003، ط1، بغداد، 2007.
2- أحمد عبدالله أبو زيد العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، ج3، ط1، لبنان، 2006.
3- سيف عدنان ارحيم القيسي، أثر أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) في مقاومة نظام البعث – أحداث صفر 1977 أنموذجا، مجلة السبط العلمية، السنة الخامسة، م5، ع2، ج1، أيلول 2019.
4- حنا بطاطو، الحركات السرية الشيعية في العراق، ترجمة شاكر العزاوي، بغداد، 2004.
5- وثائقي انتفاضة صفر 1977، قناة النجف الفضائية، https://youtu.be/G3HRUahjsil
6- هتافات ثوار أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) صفر 1977، تسجيل صوتي،
https://www.youtube.com/watch?v=OL429PjLgfU
7- حنا بطاطو، الحركات السرية الشيعية في العراق .
8- علي المؤمن، سنوات الجمر مسيرة الحركة الإسلامية في العراق 1957 -1986، ط3، بيروت، 2004.
9- أحمد عبدالله أبو زيد العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق.
10- عباس حسين الجابري وهنادي رحيل سعود، الاغتيالات السياسية للمعارضين العراقيين 1974 – 1977 (تصفية رجال الدين، وانتفاضة خان النص أنموذجا)، مجلة إشراقات تنموية، م 7، ع31، 2022؛ سيف عدنان ارحيم القيسي ، أثر أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) في مقاومة نظام البعث –.