banarlogo

العُنف اللفظي في خطابات تنظيم داعش الإرهابي

أ.د. حسين الزيادي
   العُنف اللفظي عبارة عن ممارسة لغوية تأخذ أشكالاً متعددة، ونماذج مختلفة، فيكون تهديداً وتهجماً تارةً، وسباً وقذفاً وإيذاءً للآخرين تارةً أخرى، وهو البداية الأولى للعنف المادي الملموس؛ لأنه يشيع الكراهية، ويولد التنازع والتخاصم والتباغض،  ويُعرف العُنف اللفظي على أنَّه نوع من التفاعل اللفظي الذي يتسبب في إلحاق الضرر بالآخرين، وجرح مشاعرهم، والتقليل من مكانتهم، وينم العُنف اللفظي عن المسارات العقائدية والثقافية والنفسية القابعة خلف تلك النصوص والمعاني، فضلاً عن كونه إظهار لإرادة الشر، وعدم احترام لإرادة الطرف الآخر، ومحاولة لبث الرعب لدى المعسكر المقابل، وغالباً ما يكون العُنف اللفظي بداية حقيقية للعنف المادي، فضَرْبُ اللِّسانِ أَشَدُّ مِنْ ضَرْبِ السِّنَانِ،  كما رويّ عن الإمام علي (عليه السلام).
إن الدراسة اللغوية المتأنية للعنف اللفظي في خطابات تنظيم داعش الارهابي تكشف بجلاء عن ايدولوجية التنظيم القائمة على أساس صناعة الخوف والرعب، فقد سعى التنظيم الارهابي إلى توظيف قاموس لغوي يقوم على أساس بث الإرهاب، والتهديد بالقتل في صفوف المعارضين له، من خلال عبارات التهجم والتخويف، بهدف النيل من معنويات الطرف الآخر، ودفعه للانصياع والاستسلام، اعتماداً على استراتيجية بث الفزع والذعر التي تسهم في استسلام الخصم، وتَثْبيط معنوياته، وانتقاله من حالة الهجوم إلى حالة الدفاع، وأن معجم الكلمات والمصطلحات التي استعملها التنظيم يظهر صورته الحقيقية التي تصل لمستوى الإبتذال، والسوقية .
    ويأخذ العُنف اللفظي في قاموس تنظيم داعش أشكالاً متنوعة، وأنماطاً مختلفة، فعلى المستوى الدلالي، يتلفظ بالعُنف باستعمال مفردات السبّ، والشتم، والتهديد، والقذف، والسخرية، وإظهار علامات الازدراء والاحتقار، والتعنيف، والتجريح، والتوبيخ، والتطاول على الآخر، وألفاظ أخرى تشير إلى خدش الحياء، وتطال العرض والشرف والتشكيك في العقيدة.
  ومن المتون الخطابية التي يمكن الاستدلال بها على الخطاب اللفظي المتطرف لتنظيم داعش الإرهابي ما ورد في إحدى خطب زعيم التنظيم – أبو بكر البغدادي، قوله: (لنتفرغ للنصيرية والروافض، وليعلموا أن في الدولة رجالاً لا ينامون على ضيم، مجربون، عَرفهم القاصي والداني …  أما نحن فلا يسعنا إلا أن نقول لكم الدم الدم الهدم الهدم، وأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون…. إلى قوله فلابد أن يصهر الصف؛ ليخرج منه الخبث، ويضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة)، وهنا استعمل البغدادي معجماً لغوياً للعنف اللفظي تتراوح ألفاظهُ بين الشتم، والقذف، والتكفير لكل من عارضه في العقيدة والاتجاه، وقدم نموذجاً متكاملاً للعنف اللفظي القائم على الدعوة للقتل، والهدم، والتدمير، وفي خطبة أخرى يتجلى فيها العُنف اللفظي المقترن بالتهديد، والوعيد، وبلاغة التحريض: قوله (فاعلموا أن لنا جيوشاً في العراق والشام من الأسود الجياع شرابهم الدماء، وأنيسهم الأشلاء، لم يجدوا فيما شربوا أشهى من الدماء، ثم والله لن نبقّي منكم، ولن نذروفي مورد آخر صرح التنظيم على موقع تويتر (تمت تصفية (1700) عنصر رافضي في الجيش من أصل (2500)، أما الباقي من مرتدي أهل السنة، فقد تم العفو عنهم).
 إن ما يمكن استنتاجه من خطابات التنظيم المتطرف على كثرتها، وتعدد مناسباتها؛ هو الإسهاب في التهديد، والوعيد، والتطاول على مقدسات الآخرين، والتوبيخ والتقريع، ويظهر ذلك من خلال تقسيمهم العالم الإسلامي على شرائح، وفئات، كالرافضة، والمرتدين، والمشركين، والنصيرية، والطواغيت، والأذناب، والمفسدين.
    وبحسب أيدلوجية كيان داعش الإرهابي يهدف العُنف اللفظي إلى:
  • إعطاء صورة كاذبة يحاول من خلالها التنظيم تحطيم معنويات المقابل، ورفع معنويات مقاتليه، كما في قول المتحدث الرسمي باسم تنظيم داعش: (هذي راية الدولة الإسلامية راية التوحيد عالية خفاقة، تضرب بظلالها من حلب إلى ديالى، وباتت تحتها أسوار الطواغيت مهدمة، وراياتهم منكسة، وحدودهم محطمة، وجنودهم ما بين مقتول ومأسور …).
  • أحياناً يكون الهدف رفع عزيمة مقاتلي التنظيم، وتصوير الطرف الآخر بالمجرم والحاقد، كما في قول المتحدث باسم التنظيم مخاطباً جنده (فهبوا يا أسود الدولة الإسلامية، اشفوا غليل المؤمنين، ثبوا على الرافضة الحاقدين، أرونا منهم الدماء والأشلاء).
  • يهدف تنظيم داعش الإرهابي من استعمال لغة العنف استقطاب فئة عمرية محددة تتناغم مع هذه اللغة، وبذلك يستهويها الانضمام إلى هذا الكيان.
وزيادةً في تأثير خطاب الكراهية والعنف لتنظيم داعش الإرهابي تم تعزيزه بالمؤثرات الصوتية، والمناظر، واللقطات الفيديوية؛ ليكون أبعد أثراً، وأكثر قابلية على استهداف الأفكار والعقول، فهذا النوع من العنف أبعد من العُنف التقليدي الموجه ضد الأشخاص؛ لأنه غير محدد بحيز مكاني معين، ويخطأ من يعتقد أن هذه الخطابات العنيفة مرحلية تحتمها الظروف والأحداث الموجودة على أرض الواقع، بل هي استراتيجية ونهج قد ترسخ في العقول المتطرفة، حتى باتت مشاهد الذبح، والنحر سياسة ثابتة، ونمطاً مميزاً لهذا التنظيم المنحرف.
   من الناحية القانونية عالج القانون العراقي من خلال قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 المعدل في كثير من مواده مواضيع ذات صلة بالعنف اللفظي، إذ نصت المادة (47/3) يُعد فاعلاً للجريمة: من دفع بأية وسيلة، شخصاً على تنفيذ الفعل المكون للجريمة…) عندما يؤدي هذا الخطاب إلى ارتكاب جرائم من الغير الذين يتأثرون به، وعاقبت المادة (200) التي وردت ضمن الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي (بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات كل من حبذ أو روج ما يثير النعرات المذهبية، أو الطائفية، أو حرض على النزاع بين الطوائف، والأجناس، والبغضاء، أو أثار شعور الكراهية بين سكان العراق، وهو ما يشكل مفردات ومضمون خطاب الكراهية، بينما عاقبت المادة (372) التي وردت ضمن (الجرائم التي تمس الشعور الديني) بالعقوبة من اعتدى بإحدى طرق العلانية على معتقد لأحدى الطوائف الدينية، أو حقر من شعائرها، وذهبت المواد (433) و (434) على تجريم القذف، والسب بإحدى وسائل العلانية.
كما نصت المادة (٢٠٠) من قانون العقوبات العراقي رقم (١١١) لسنة ١٩٦٩ المعدل على عقوبة السجن مدة لا تزيد على سبع سنوات على كل من روج إلى ما يثير النعرات المذهبية، أو الطائفية، أو حرض على النزاع بين الطوائف والأجناس، أو أثار شعور الكراهية والبغضاء.
وجدير بالذكر أن نص المادة (٢) من قانون مكافحة الارهاب النافذ  يعتبر  العنف أو التهديد الذي يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو تعرض حياتهم وحرياتهم وأمنهم للخطر وتعريض أموالهم وممتلكاتهم للتلف أياً كانت بواعثه وأغراضه يقع تنفيذاً لمشروع إرهابي منظم فردي أو جماعي .
كذلك قد يندرج العنف اللفظي والترهيب تحت طائلة الجرائم الدولية في ظروف معينة إذا ما تم استخدامها بشكل ممنهج ومنظم في إطار النزاعات المسلحة أو حملات الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية، ومن ذلك على سبيل المثال اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 م التي تجرم الأفعال التي ترتكب بنية التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية، وتشمل التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998م الذي تطرق إلى العنف اللفظي والترهيب في مجموعة من الجرائم الدولية، منها الجرائم ضد الإنسانية التي تشمل الاضطهاد ضد أية مجموعة محددة من السكان لأسباب سياسية, أو عرقية, أو قومية, أو ثقافية, أو دينية, أو جنسية، فضلاً عن الأفعال اللاإنسانية التي تسبب معاناة كبيرة, أو أذى خطيراً للجسم, أو العقل, أو الصحة البدنية، وهذه النصوص تعزز المسؤولية الجنائية الدولية للأفراد الذين يرتكبون أو يساهمون في ارتكاب أعمال العنف اللفظي والترهيب في سياق الجرائم الدولية .